عصام تليمة

لكل مصري حر جرح غائر ناله من حكم العسكر في مصر، سواء أكان جرحاً بدنياً أم نفسياً، وقد قرأت في أيام الدراسة الجامعية ديوان شعر للشاعر المصري الحر هاشم الرفاعي، يحمل عنوان: (جراح مصر)، جمعه وعلق عليه الأستاذ مجدي الشهاوي، والديوان كله عن حكم العسكر أيام عبد الناصر، وقصائد فاضحة لهذا النظام وجبروته وظلمه، وقد كان عنوان الديوان معبراً عما يفعله العسكر بمصر، من جراح لها ولأبنائها، وخاصة الأحرار منهم.
تذكرت ذلك الديوان، والعنوان، وأنا أطمئن على حالة شيخنا القرضاوي الصحيّة، فقد ألمّ به تعب صحي، وقد عافاه الله منه والحمد لله، إلا أنه ألم قديم، فقد عُذب الشيخ وجلد على يد زبانية العسكر في السجن الحربي، وترك السجن جرحاً اندمل شكلياً، لا يشعر من يتعامل مع الشيخ أن له أثراً، في رجله اليمنى تحت ركبته بمسافة قليلة، كنت في مرة من المرات أساعده مع بعض تلامذته ليرتاح قليلاً على فراشه، وبالخطأ لمست يدي موضع الجرح القديم، ففوجئت بالشيخ يتألم ويقول بلغة عامية: «حاسب يا عصام، حاسب يا شيخ»، وعندها انتبهت لموضع الجرح القديم، فأي لمسة ولو رقيقة من طفل كان أو كبير يتألم منها، وتذكرت قصة هذا الجرح.
يعود تاريخ جرح الشيخ لأحداث السجن الحربي سنة 1954م، عندما اقتيد الشيخ وإخوانه للمحاكمة، وقد نفوا التهمة الموجهة إليهم من الحكم العسكري، وعادوا بهم إلى السجن الحربي، فعقد لهم «حمزة البسيوني» قائد السجن محاكمة خاصة، وأخبرهم أنه الكل في الكل، وأنه القاضي والحاكم والسجان، وأوقفهم في طابور تكدير، ثم حكم عليهم بالجلد، يبدأ الجلد من عشر جلدات ويصل لخمسين، ويأتي كل من عليه الدور للجلد، فيجلد بكل قسوة، أصحاب العشرة عليهم أن يقعدوا على الأرض ويمدوا أرجلهم، ليضربهم الجند واحداً بعد الآخر. أما أصحاب الخمسين، فتنصب لهم (الفلقة) وتقيّد فيها أرجلهم، ويجلدون بإشراف البسيوني نفسه.
يقول الشيخ القرضاوي في مذكراته عن هذا الجرح: (جاء دوري، ووضعت في الفلقة، واستمر الضارب يضرب، ولا أدري هل أكمل الخمسين أو وقف دونها، ولا أذكر أنها آلمتني كثيراً، إلا أني رأيت الدم يسيل من ساقي بغزارة. وكان للسجن الحربي طبيب يفترض أن يأتي كل يوم ليشرف على صحة المساجين، يعالج مرضاهم، ويداوي جرحاهم، ويجبر كسراهم. ولكنه لم يكن يأتي كل يوم كما هو المعتاد والمطلوب، خصوصاً مع كثرة الجرحى والمصابين من جراء التعذيب، ولكن إهمال المصابين والمجروحين كان من جملة التعذيب المفروض علينا.
وهذا جعل الجرح في ساقي اليمنى يشتد ويتفاقم ويتقيّح، وينذر بعواقب خطيرة. وأخيراً وصلت إلى طبيب السجن الحربي، وأعطاني بعض المراهم والبودرة على الجرح، حتى التأم والحمد لله، وإن بقيت آثاره معي بعد ذلك غائرة، وظل موضعه حساساً لأي لمسة، أو حركة غير محسوبة، فسرعان ما تؤثر فيه، وربما سال منه شيء من الدم، والحمد لله على كل حال). 
هذا هو جرح الشيخ القديم الذي عاوده من جديد ، فلزم الفراش أياماً، حتى بدأ في التعافي والحمد لله، بيد أني أشعر أن جرحه القديم ضمّ إليه العسكر جرحاً غائراً آخر، لكنه أشد خسة ونذالة، وهو جرح اعتقال ابنته السيدة علا القرضاوي، دون جريرة فعلتها سوى أنها ابنة الشيخ القرضاوي، وتحمل الجنسية القطرية، ولم يرقبوا فيها إلاً ولا ذمة، وعزاء الشيخ وعزاؤنا جميعاً: أن جرحه ليس جرح القرضاوي وحده، بل جراح مصر كلها، فما من بيت حرّ وشريف إلا وناله جرح غائر من العسكر، في مال، أو ولد، أو نفس، أو وطن تم التفريط بأرضه ومقدّراته وكرامته. عافى الله شيخنا وشعبنا من كل الجروح، وخاصة جراح العسكر.}