جبهة الجنوب .. معادلة ردع وقواعد جديدة
العدد 1610 /24-4-2024 د. وائل نجم

للمرّة الأولى منذ السابع من أكتوبر / تشرين الأول 2023 ـتاريخ انطلاق معركة "طوفان الأقصى" يضرب حزب الله ويستهدف مراكز قيادات الاحتلال في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة حيث استهدف بطائرات مسيّرة يوم الثلاثاء (23/4/2024) قيادة لواء غولاني قرب مدينة عكا على الساحل الفلسطيني، ومواقع أخرى قرب مدينة حيفا، وبغض النظر إذا ما كانت هذه المسيّرات أصابت أهدافها أم لم تصب، أو إذا ما تمكّن الاحتلال من إسقاطها، غير أنّها فرضت معادلة ردع جديدة وأدخلت الرعب إلى قلوب المستوطنين المحتلين الذين رأينا من خلال الفيديوهات التي انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي كيف كانوا يفرّون من على الشاطىء وسط حالة من الذعر الشديد. لقد شكّلت جبهة جنوب لبنان جبهة إسناد لجبهة غزة وبغض النظر عن حجم التأثير على تلك الجبهة سواء لناحية ردع الإسرائيلي ودفعه إلى التراجع في غزة من عدم ذلك. كما شكّلت جبهة الجنوب جبهة إشغال لقوات الاحتلال كان له تأثير واضح من خلال استنزاف جزء من قوات الاحتلال والمستوطنين في شمال فلسطين المحتلة. غير أنّ الاحتلال راح يطوّر من مواجهته ويحاول أن يفرض معادلات وقواعد اشتباك جديدة مع لبنان من خلال توسيع دائرة اعتداءاته وعدوانه إلى مناطق بعيدة في العمق اللبناني في البقاع والجنوب وحتى في الضاحية الجنوبية لبيروت، ومن خلال استهداف قطاعات مدنية كما في استهداف الصحفيين والمسعفين الصحيّين والأبنية المدنية. وقد احتاج هذا التطوّر العدواني في أداء العدو إلى ردّ يعيد الاعتبار للردع الذي كان قائماً ولقواعد الاشتاك التي كانت تحفظ الاستقرار النسبي وتمنع الأمور من الانزلاق نحو المواجهة المفتوحة والشاملة. ولعلّ في استهداف حزب الله لمراكز قيادات الاحتلال في العمق الفلسطيني كما حصل في استهداف مركز قيادة لواء "غولاني" قرب عكا رسالة واضحة وجليّة برسم قواعد الاشتباك من جديد، وتكريس قوة الردع مرّة أخرى بحيث تصبح المعادلة بعد اليوم كما يلي: كلّما استهدف الاحتلال سيارات أو أهدافاً خارج منطقة المواجهة المعروفة (المنطقة الحدودية) فإنّ الرد سيكون أيضاً خارج المنطقة الحدودية (من جهة شمال فلسطين المحتلة) في العمق حيث قيادات ومراكز الاحتلال. ولكن السؤال الأساسي بعد رسالة الثلاثاء هل سيمتثل الاحتلال لهذه القواعد الجديدة؟ وهل سيرتدع عن توجيه ضربات معيّنة داخل العمق اللبناني؟ أم ترى سيستمر في نهجه الجديد وسياسته القائمة على "الإرهاب" وترويع المدنيين؟ يحاول الاحتلال دائماً أن التحلّل من أيّة التزامات مكتوبة أو مفروضة ويتطلّع دائماً إلى ممارسة سلوك غير منضبط ولا مقيّد بشيء، ولذلك سيحاول تجاوز محاولة فرض قواعد جديدة في المواجهة حتى تبقى له حريّة الحركة وتوجيه الضربات في أيّ مكان من لبنان، غير أنّ ذلك يتوقف أيضاً على قدرة حزب الله على توسيع دائرة ردّه على اعتداءات الاحتلال، وعلى نوعية هذا الردّ. إنّ الردّ الذي قام به حزب الله على استهداف سيارة قرب عدلون بين صيدا وصور يدخل في إطار استعادة الردع وقواعد الاشتباك، غير أنّ ذلك أيضاً قد يدخل في حسابات الإسرائيلي ضمن التفكير بضرورة وضع حدّ لما يعتبره ويُعدّه خطراً محدقاً على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، وبالتالي فإنّ ذلك قد يدفع البعض في قيادة الاحتلال إلى التفكير في مغامرة جديدة في لبنان تضاف إلى المغامرة الفاشلة في غزة خاصة وأنّ هذا البعض الإسرائيلي لم يعد لديه ما يحافظ عليه وبالتالي فقد يقوده الجنون إلى ضرب الجنوب علّ ذلك يخلط الأوراق ويفرض قواعد جديدة تخلّصه من الورطة التي أقحم نفسه بها في غزة.

إيران تستعيد قوة الردع وتفرض قواعد جديدة
العدد 1609 /17-4-2024 د. وائل نجم

نهاية الأسبوع الماضي ردّت إيران على الغارة الإسرائيلية التي استهدفت قنصلية إيران في دمشق خلال شهر رمضان المبارك، وقد وجّهت قوات الحرس الثوري الإيراني مئات المسيّرات والصواريخ البالستية والمجنّحة من داخل الأراضي الإيرانية صوب أهداف إسرائيلية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، فتمّ إسقاط عدد من المسيّرات والصوايخ، وهذا كان معروفاً وموضوعاً على خطة الحرس، فيما تمكّنت مسيّرات وصواريخ أخرى من بلوغ أهدافها داخل الأراضي المحتلة مسجّلة تطوّراً بالغ الأهمية والدّقة حيث أصابت هذه الصواريخ والمسيّرات تلك الأهداف وألحقت بها أضراراً بالغة بغض النظر عمّا إذا كانت الأضرار مادية أو بشريّة، وهذا باعتراف كيان الاحتلال الإسرائيلي. كثر رأوا في الردّ الإيراني مسرحية مكشوفة هدفها خروج إيران ببياض الوجه بعد قصف القنصلية في دمشق، خاصة وأنّ إيران أعلنت عن إطلاق المسيّرات والصواريخ، وأعلنت عن سرعتها وساة وصولها إلى أهدافها ما مكّن الكيان الإسرائيلي وحلفاءه من إسقاط معظمها وفقاً للرواية الإسرائيلية. وكثر أيضاً رأوا أنّ الردّ الإيراني ألحق بكيان الاحتلال وقواعده العسكرية التي استهدفت أضراراً كبيرة مادية وبشرية لم يفصح عنها الكيان بعد. وتغنّى هؤلاء بمستوى وحجم هذا الردّ، وبلغوا مبلغاً وصفوه بالردّ الاستراتيجي. والحقيقة تقع بين الموقفين. لا يمكن الحديث عن ردّ مسرحي استخدمت فيه مئات المسيّرات والصواريخ، ونشر حالة كبيرة من الهلع والخوف والقلق في صفوف المستوطنين الإسرائيليين، وأكّد بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ هذه الصواريخ والمسيّرات قادرة على بلوغ أهدافها في داخل الأراضي المحتلة، على الرغم من تولّي عملية إسقاطها من دول عديدة في المنطقة ومن خارجها. كما لا يمكن الحديث عن أنّ هذا الردّ بلغ مبلغاً استرايجياً كبيراً وواسعاً بحيث جعل كيان الاحتلال ينزل على شروط إيران ويخضع لها. الحقيقة أنّ الردّ أعاد الاعتبار لإيران وللحرس الثوري في المنطقة، وأكّد أنّها دولة قادرة على الدفاع عن حدودها ومصالحها، وتملك إمكانية الرد على المخاطر التي تتهدّدها وأن ما تقوله وتهدّد به ليس وهماً إنّما واقع تملك كلّ معطياته. والحقيقة الأخرى أنّ إيران أعادت الاعتبار لقوّة الردع في المنطقة، والدليل على ذلك أنّ كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي توعّد بالردّ على الردّ الإيراني، غير أنّه يخضع هذا الرد المنتظر لمزيد من النقاش والبحث والتنقيب على مستوى مجلس الحرب لأنّه يدرك أنّ أيّ ردّ أو خطوة لم تعد دون حسابات وضوابط كما لو أنّ إيران لم تردّ. بهذا المعنى يتأكّد لنا أنّ الردّ الإيراني أعاد الاعتبار لقوّة الردع التي كان وما زال يملكها، بل أكثر من ذلك فقد فرض قواعد اشتباك جديدة في المنطقة قد يذهب الإيراني بها إلى حدود حماية حلفائه من الغطرسة والجنون الإسرائيلي. العالم ينتظر الآن الموقف الإسرائيلي الجديد، والذي يتوعّد بردّ على الردّ الإيراني، وحجم ذلك ومكانه ووقته وظروفه، وبناءّ عليه يمكن أن ترسو المنطقة على قواعد جديدة كما يمكن أن تنزلق إلى حرب واسعة ومفتوحة يريدها البعض في كيان الاحتلال الإسرائيلي، وبانتظار ذلك ستظلّ قوة الردع الإيرانية قائمة وحاضرة وبغض النظر عمّا ألحقته الهجمة الإيرانية الأخيرة، فنتائج الحروب لا تتوقف على حجم الخسائر بل على كميّة ونوعيّة الأهداف المتحقّقة والواقع الذي ينشأ عن أيّ تحرك ميداني.

بأيّ حال عُدْتَّ يا عيد؟
العدد 1608 /3-4-2024 د. وائل نجم

أيّام قليلة ويهلّ علينا هلال عيد الفطر المبارك. يهلّ علينا وأحوال أمّتنا صعبة، معقدّة، مستهدفة، تحت الضغط والنار، تنزف في أكثر من مكان، ولكن غير ميؤوس منها على الإطلاق. في فلسطين حيث القضية الأساسية والمركزية للأمة، للمسلمين على امتداد العالم، بل لكلّ إنسان حرّ، يقع الشعب الفلسطيني تحت ضغط الاحتلال الذي يرتكب بحقّ الفلسطينيين أبشع وأفضع أنواع المجازر والإبادة الجماعية على مرأى من هذا العالم الذي يُسمّي نفسه حرّاً وينادي بحفظ حقوق الإنسان، ثمّ لا يحرّك ساكناً لوقف تلك المجازر لأنّها بحقّ شعب مسلم مسالم لا يريد سوى أن يعيش بأرضه بكرامة وحريّة. ولكن على الرغم من مجازر الاحتلال وصمت العالم فإنّ هذا الشعب بصموده وانتصاراته وصبره وإلحاقه الهزيمة بالاحتلال ومنْعه من تحقيق أهدافه يعيد الأمل إلى الأمّة كلّها، يؤكّد بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ النهوض ممكن، والنصر موعود فلا يأس ولا إحباط ولا تراجع. في بقية الأقطار العربية التي شهدت انتفاضات للخروج من حالة الرِقّ والعبودية، من حالة الفساد والاستبداد، من حالة العجز والتخلّف، وعلى الرغم من إعادة الشعوب إلى مربع العزل بشكل نسبي، وإلى حالة الخوف والقلق، وإلى حالة الإفقار والتخلّف، وإلى كلّ هذه المعاني التي أرادت أن تعود بالشعوب إلى مربع الانقياد والإخضاع والسيطرة والتحكّم، غير أنّ الجمر ما يزال تحت الرماد، وإرادة هذه الشعوب تظهر بين الفينة والأخرى معبّرة عن رغبتها بالانعتاق من حالة الجمود والتقوقع والانغلاق، من حالة العجز والتخلّف وانعدام الإرادة إلى ذاك الفضاء المفتوح الذي يتيح للشعوب تحقيق تطلعاتها في بناء دولة المواطنة والأخاء والمسؤولية، دولة العدالة والشفافية والتداول السلمي على السلطة، وبالتالي فلا يأس ولا إحباط ولا تراجع. في عالمنا الإسلامي المترامي الأطراف حيث نجد أنّ العالم الآخر الذي يتغنّى بالحريّة ومنظومة الحقوق يعمل جاهداً لتمزيق عالمنا الإسلامي وتشتيته بهدف سرقة خيراته وثرواته والسيطرة على مقدراته ومنْعه من النهوض والقيام بواجب إنقاذ البشرية، نجد أنّ عالمنا الإسلامي وعلى الرغم من التدخلات والضربات التي يتلقّاها، وعلى الرغم من محاولات عرقلة مسيرة نهوضه عبر صنوف شتى من الخطط والبرامج التي لا تخطر على بال، على الرغم من كلّ ذلك فإنّ هذا العالم الإسلامي يخطو خطوات وإن كانت ثقيلة نحو الاستقرار والقيام بواجب إنقاذ البشرية، فلا يأس ولا إحباط ولا تراجع. عيد بأيّ حال عدت يا عيد؟! على الرغم من الألم، والمأساة، والمعاناة، والمجازر وكل شيء، هذه أمّة لا تموت. هذه أمّة تنهض من تحت الركام. هذه أمّة تجترح الحلول من المآسي وتنهض من جديد للقيام بواجب الإنقاذ. ليس من صفاتها وشيمها الثأر والاعتداء وإن كان ردّ الصاع بالصاع مشروع، إنّما من مزاياها عن غيرها أنّها أمّة تريد الإصلاح والأنقاذ من أجل الإنسان. ولن تتخلّى عن هذه الميزة التي حباها الله بها. هذه أمّة كلّما تعرّضت للضغط اشتدّ عودها، وزادت عزيمتها على المضي في الطريق الذي ارتضاه الله لها حتى تبقى وتظلّ أمّة الخير التي تحمل كلّ الخير لكلّ الناس.

المجزرة مستمرّة والصمود مستمر
العدد 1607 /27-3-2024 د. وائل نجم

كأنّ كيان الاحتلال الإسرائيلي ردّ على قرار مجلس الأمن القاضي بوقف إطلاق النار الفوري في قطاع غزة بمزيد من المجازر سواء في أنحاء القطاع أو حتى هذه المرّة في جنوب لبنان. فقد استهدف الطيران الحربي الإسرائيلي في الساعات الأولى من فجر يوم الأربعاء مركزاً صحيّاً يقدّم الخدمات الصحيّة والإنسانية في بلدة الهبارية في الجنوب ما أدّى إلى سقوط سبعة شهداء من المسعفين المناوبين في المركز، فضلاً عن الذعر والخوف الذي خلّفته الغارة في أوساط الأهالي. من الواضح أنّ حكومة الاحتلال لا تأبه لقرارات الشرعية الدولية ولا إلى قرارات مجلس الأمن ولا تقيم اعتباراً سوى لمصالحها، ولا تفهم سوى منطق القوّة أيضاً. كم وأنّه من الواضح أنّ هذه الحكومة أمنت العقاب فأسأت الأدب وارتكبت المزيد من المجازر لأنّها تدرك أنّ أحداً من هذا العالم أو ما يُسمّى المجتمع الدولي لن يسألها أو يعاقبها على جرائمها، فهي قد اقترفت عشرات المجازر في فلسطين وفي جنوب لبنان منذ بداية عدوانها على غزة، والمجزرة ما زالت مستمرة ومتواصلة وهي في مأمن من العقاب لأنّ الفيتو الأمريكي حاضر في مجلس الأمن، وإن كان في الجلسة الأخيرة هرب إلى مربع الامتناع عن التصويت لصالح وقف إطلاق النار من دون أن يدين المجازر. حكومة كيان الاحتلال الإسرائيلي لجأت إلى ارتكاب هذه المجزرة في جنوب لبنان بحقّ مسعفين لأنّها باتت محشورة بشكل كبير في غزة وفي جنوب لبنان، وهي تدرك أنّ فشلها في حربها على غزة وعلى الجنوب لن يوفّر لها الأمن فضلاً عن البقاء، فلجأت إلى سياسة الأرض المحروقة والمجازر المروّعة علّ ذلك يخيف الشعبين الفلسطيني واللبناني ويعيد عقارب الزمن إلى الوراء. إنّ لجوء الاحتلال إلى ارتكاب المجازر يعكس حجم المأزق الذي يعيشه وحجم الإرباك الذي يسيطر عليه، وهو الذي لم يحصد حتى الآن سوى الخيبات والفشل من كلّ حركته وعدوانه، وهو الذي م يبرع سوى في ارتكاب المجازر وحروب الترويع والتجويع والتركيع. المجزرة مستمرة والصمود والعطاء مستمران أيضاً. الشعب الفلسطيني يسطر أروع أنواع البطولة بصموده وتضحيته وعطائه؛ والشعب اللبناني شريك له في هذا الصمود والعطاء وهو الذي يدرك جيداً أطماع الاحتلال بأرضه ومياهه وثرواته، ولذلك وقف مدافعاً عن أرضه وناصراً لشقيقه الشعب الفلسطيني. ما يجري في غزة وفي جنوب لبنان يرسم معالم المرحلة المقبلة في المنطقة وليس في فلسطين ولبنان فحسب، ولذلك فإنّ الاحتلال يمعن في جرائمه مدعوماً من الدول الشريكة له والمدافعة عنه، والشعب اللبناني والشعب الفلسطيني يتمسّكان بحقوقهما لأنّهما لا يملكان سوى ذلك، فإذا كان الاحتلال مستمر في مجازره فإنّ اللبنانيين والفلسطينيين مستمرّون في صمودهم حتى النصر ودحر الاحتلال.

في الحديث عن عسكرة العاصمة بيروت!
العدد 1606 /20-3-2024 د. وائل نجم

خلال الأيام الأخيرة انبرى عدد من نواب بيروت وأثاروا حديثا عن عسكرة العاصمة وأخذوا يحذرون من ذلك كما لو أن جحافل من الجيوش والعسكر باتوا على كل مفترق أو زاروب حي من أحيائها، وجاء إثارة هذا الموضوع على خلفية قيام الجماعة الإسلامية بتشييع أحد شهدائها الذين ارتقوا في مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب دفاعا عن كل لبنان، ونصرة للشعب الفلسطيني الذي يتعرض منذ أكثر من خمسة أشهر لأبشع أنواع المجازر والمذابح المستمرة والتي سكت عنها أو عجز عن وقفها كل العالم. وقد ظهر خلال التشييع بضعة شبان من "إخوان" الشهداء يرتدون زيا موحدا شبه عسكري، إذ ليس في لبنان أي زي عسكري سوى ذاك الذي يرتديه جنود الجيش اللبناني وعناصر قوى الأمن الداخلي والأجهزة الأمنية الرسمية الأخرى، وما سوى ذلك أيا يكون لا يعد عسكريا، وهؤلاء الشبان كانوا مكلفين حصرا بحمل جثمان أحد الشهداء كتعبير رمزي يعبر عن الوفاء تلجأ له كل المؤسسات. كما ظهرت خلال التشييع ثلاث بنادق حربية إحداها تعود للشهيد ذاته، والأخريان ترمزان إلى أخويه الشهيدين اللذين ارتقيا معه. وحصل أيضا أثناء إخراج الجثمان من مسجد الإمام علي في الطريق الجديدة إطلاق نار من بندقية حربية (عدد مخزنين) من شخص كان يقف خلف المسجد ثم لاذ بالفرار مع شخص آخر كان ينتظره على دراجة نارية عندما حاول عناصر الانضباط المكلفين ضبط الوضع الميداني ضبطه وتوقيفه. كما حصل إطلاق نار من مسدسات فردية بواسطة أفراد كان بعضهم يفد من الطرقات الفرعية لخط سير الجنازة، وقد عمل عناصر الانضباط جهدهم لمنع ذلك ووقفه. كل ذلك يعني أن القرار الرسمي برفض الظهور المسلح، ورفض إطلاق النار، والاكتفاء بمظهر يعكس نوعا من الوفاء لدماء الشهداء، ولا ننسى أنهم ارتقوا خلال مواجهة بطولية مع العدو الإسرائيلي، ولكن مع ذلك أثير الحديث عن عسكرة العاصمة والمظاهر المسلحة فيها. وهنا لا بد من التذكير أن إطلاق النار عادة سيئة والكثير من القوى والشخصيات يرفضها، والجماعة إحدى هذه القوى، وقد شيعت شهيديها الآخرين في بلدتي شحيم في إقليم الخروب، والهبارية في العرقوب على بعد أمار قليلة من مكان استشهاد الشهداء، ومع ذلك لم تطلق أية رصاصة خلال التشييع، وبالتالي فإن ذلك يؤكد أن مطلقي النار في التشييع في بيروت ليسوا من أفرادها وعناصرها. ثم إن هذه العادة السيئة (إطلاق النار في المناسبات) وقع أو يقع فيها الكثير من الناس من غير إرادة منهم، وقد انتشر فيديو لأحد النواب الذين صرحوا برفض ما حصل، وهو مرفوع على الأكتاف في إحدى البلدات وقد ملء إطلاق النار سماء المنطقة في حينه، ومع ذلك لم يتحدث أحد عن عسكرة وتسلح. ثم إن الجماعة الإسلامية من القوى التي لا يخلو بيان لها من التأكيد والتشديد على ضرورة قيام الدولة وأخذ مؤسساتها دورها بشكل كامل وطبيعي، وعلى دعم الأجهزة العسكرية والأمنية الرسمية، بل وكانت من أوائل القوى التي طالبت واقترحت استراتيجية دفاعية تكون الدولة مرجعيتها، وتستفيد من خبرة كل القوى التي شاركت في مقاومة العدو الإسرائيلي، وأكثر من ذلك أكدت مرارا وتكرارا أيضا على رفضها لأي استخدام للسلاح في الداخل اللبناني، وأنه ليس لها خصومة أو عداوة في الداخل، بل العدو الوحيد هو العدو الإسرائيلي الذي ما يزال يحتل قسما من الأراضي اللبنانية في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، بل مدت يدها للحوار مع مختلف القوى اللبنانية سواء اتفقت معها أو اختلفت، وهي حافظت طيلة فترة الانقسام اللبناني على علاقات طيبة مع طرفي الانقسام حتى أدت دور الوسيط في بعض الفترات التي لا يعمل كثيرا من الناس عنها. أما لماذا إثارة هذا الحديث في هذه المرحلة فهو محل استهجان واستغراب؟! هل يجهل مطلقوه حقيقة الجماعة؟ هل يعرفون وسطيتها وانفتاحها واعتدالها وإيمانها بالدولة؟ هل يدركون أن وسطية الجماعة وحكمتها حفظت البيئة الإسلامية من الانزلاق نحو التطرف الذي تحدث عنه البعض؟ هل يعرف أولئك أن الجماعة نظمت في العام 2007 مؤتمرات علمائيا واسعا أصدر وثيقة رفضت التطرف وأكدت على الوسطية والاعتدال والتعاون بين كل مكونات الوطن؟! هل يعلم أولئك أن الجماعة شكلت ضمانة للبنان من الانزلاق نحو الفتنة عندما كان البعض ينفخ في بوقها؟ إذا أردنا أن نحسن الظن فإن أولئك لا يعرفون هذه الحقائق؛ إما إذا أراد المرء أن يسيء الظن فإن المسألة تكون أكبر من ذلك وأخطر، وربما تقع في خانة الخوف والقلق من تكامل جهود القوى التي ترفض المذابح التي تحصل للشعب الفلسطيني، وهو أمر ترفضه البيئة الإسلامية السنية التي رضعت حب الأقصى مع حليب الأمهات.

بين الواجب الإسلامي والوطني والإنساني
العدد 1605 /13-3-2024 د. وائل نجم

الجريمة الصهيونية المنظمة بحق أهالي غزة وفلسطين من الرجال والنساء والأطفال المدنيين باتت واضحة ومعلومة لكل العامل في ظل القصف الهمجي على مدار أكثر من خمسة أشهر، وفي ظل الحصار الذي يمنع إدخال المساعدات الغذائية والأدوية حليب الأطفال، وفي ظل الصمت الدولي، بل الدعم الدولي، وفي ظل العجز العربي عن وقف هذه المذبحة والمجزرة بحق أولئك الأبرياء. وأما الهدف فقد بات أيضا واضحا لا يحتاج إلى كثير عناء لكشفه. الهدف من وراء هذه الجريمة المنظمة والمجزرة والمذبحة المتواصلة هو تهجير الشعب الفلسطينيين أرضه ومنازله في غزة والضفة الغربية ولاحقا من القدس وأراضي 48 ومن كل حبة تراب له، وربما لاحقا أيضا تهجير اللبنانيين والسوريين والأردنيين والمصريين بهدف إقامة الكيان المزعوم من النيل إلى الفرات. وفي مقابل ذلك، هل يعني استمرار المجزرة تسليم رقابنا للسفاح تحت عنوان جبروته وقوته وتسلطه على أهلنا وعلينا؟! هل يعني الصمت الدولي، بل الاشتراك بالمجزرة خضوعنا للجزار حتى يستمر في ذبحنا أو استخدامنا في مشاريعه وبعد ذلك التخلص منا بأية طريقة من الطرق؟! وهل يعني العجز العربي والإسلامي عن القيام بأي فعل للتخفيف أو لوقف هذه المجزرة أن نشارك العاجزين عجزهم ونكتفي بإحصاء الضحايا والشهداء ونظهر الحسرة والتألم على المشاهد التي بتنا نألفها كما لو أنها عادية؟! إن الواجب الإسلامي أول يدعو المسلمين في كل العالم، ولا سيما الأقرب فالأقرب إلى فلسطين، إلى القيام بالفعل الذي يوقف المجزرة ويخفف عن المسلمين الفلسطينيين. فالأمة واحدة ويسعى بذمتها أدناها وهي يد على من سواها. والمسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. وبعد ذلك فإنهم مسؤولون أمام الله عن هذا الواجب إذا ما تركوه وركنوا إلى الدنيا ودعتها. وأما الواجب الوطني فهو يأخذ بين الاعتبار المصالح الوطنية ليس للحاضرين في حضرة الوطن الآن فقط، بل لأجيال المستقبل. وقد بات معلوما أن العدو يظهر الحقد والكراهية للوطن ولكل أبنائه دونما تمييز أو تفريق. أظهر أطماعه بالوطن، بمياهه ونفطه وغازه وأرضه وتنوعه وبكل شيء فيه، وبالتالي فإن المصلحة الوطنية تقضي التصدي لهذا العدوان وعدم تركه يستبيح كل شيء حتى يعلو علينا وبعد ذلك يفرض شروطه وسياساته وينال أطماعه. وبالتالي فإن الواجب الوطني يدعو الجميع إلى الانخراط في أداء هذا الواجب حتى نضمن للوطن دوره ومصالحه وحضوره لكل أبنائه ومكوناته. وأما الواجب الإنساني فيتمثل في تحرك أصحاب الضمائر والوجدان لوقف آلة القتل الهمجية التي تفتك بكل شيء دونما اعتبار لأي شيء. تقتل الأطفال دون رحمة، وتهتك الأعراض دون رأفة، وتبيد الأرض وما عليها دون أي اعتبار لحجر أو شجر أو بشر. إن الواجب الإنساني يدعو كل صاحب ضمير حي ووجدان صاح إلى التحرك من أجل وقف القتل والإجرام، بل ومحاسبة المجرمين عن الجرائم التي يقترفونها. وبهذا المعنى فإن الجميع على امتداد مساحة الوطن مدعو لأداء هذه الواجبات قبل أن يتفرغ المجرم لارتكاب جرائمه بحق أبنائنا وأطفالنا ونسائنا، وقبل أن يدمر أحلامنا بمستقبل أفضل لأجيالنا القادمة. فهل نعي هذه الواجبات أم ترى نستمر في تقاذف الاتهامات التي تتيح للعدو تنفيذ مخططاته بحقنا وبحق كل شعوب المنطقة؟!

جبهة جنوب لبنان... متى ساعة الحسم؟
العدد 1604 /6-3-2024 د. وائل نجم

تسود حالة من المراوحة على مستوى المواجهة الميدانية في جبهة جنوب لبنان؛ فالاحتلال الإسرائيلي يستهدف بغارات الطائرات الحربية والمسيرة قرى ومنازل وسيارات وغيرها كل يوم تقريبا، فيما ترد فصائل المقاومة باستهداف المواقع العسكرية على طول الشريط وأحيانا في العمق القريب من الحدود. وتخرج قوات الاحتلال عن قواعد الاشتباك أحيانا فتتعمد قصفا أو الإغارة على ما تسميه أهدافا في مناطق بعيدة كالنبطية وبعلبك وساحل الشوف والغازية والضاحية الجنوبية وغيره، فترد فصائل المقاومة باستهداف صفد أو كريات شمونة أو غيرها من "المستوطنات" في شمال فلسطين المحتلة، وتستخدم أحيانا أسلحة جديدة بهدف ردع العدو عن الاستمرار في غيه وعدوانه. وتترافق هذه الحالة من المراوحة مع تهديدات واستفزازات إسرائيلية متواصلة ومستمرة بهدف جر لبنان وفصائل المقاومة إلى حرب مفتوحة وواسعة بهدف خلط الأوراق والخروج من عنق الزجاجة التي وضعت حكومة الاحتلال برئاسة نتنياهو نفسها فيها، خاصة بعد إخفاقها في تحقيق أي إنجاز عسكري حقيقي يذكر في قطاع غزة على مدى خمسة شهور من العدوان الهمجي الغاشم والمستمر. كثير يسألون متى تحين ساعة الحقيقة؟ بمعنى ساعة الحسم في جبهة جنوب لبنان! بمعنى آخر، هل سيذهب الإسرائيلي فعلا نحو تصعيد الموقف والدخول في مغامرة أو مقامرة جديدة وحرب مفتوحة ربما لا تبقي ولا تذر شيئا؟! أم أن كل الموقف الإسرائيلي والتهديد بالقوة هو من أجل الداخل الإسرائيلي إما لتهيئة الأرضية الحقيقية لشن عدوان جديد على لبنان، وفي هذا السياق هناك مؤشر في غاية الخطوة إذ إن قرابة 70 % من الإسرائيليين يؤيدون شن عملية عسكرية على لبنان بحسب استطلاعات الرأي الإسرائيلية التي جرت مؤخرا بخلاف 40 % فقط يؤيدون استمرار العدوان على غزة فيما يدعو أكثر من 50 % إلى وقف إطلاق النار مع القطاع. وبهذا المعنى أو المعطى، فإن الموقف الإسرائيلي قد يكون جادا في تهديداته وقد يذهب فعلا نحو فتح الجبهة في لحظة من اللحظات خاصة إذا ما ختم عدوانه على غزة بفشل ذريع وأجبر على وقف إطلاق النار هناك بفعل شراسة المواجهة مع المقاتلين الفلسطينيين أو بفعل الضغوط الداخلية والخارجية عليه. في تلك اللحظة قد يندفع نحو لبنان لخلط الأوراق وتوريط أطراف أخرى عل ذلك يشكل مخرج له من الأزمة. في المقلب الآخر لا تريد فصائل المقاومة في لبنان وفي طليعتها حزب الله الذهاب إلى حرب مفتوحة لإدراكها أن ذلك قد يشكل المخرج المؤقت للاحتلال من أزمته، غير أنها تستعد كما لو أن هذه الحرب المفتوحة والواسعة ستقع في اليوم التالي، ولذلك فإنها تلجأ إلى الرد والتصعيد المدروس الذي يردع الاحتلال من ناحية ولا يعطيه الفرصة للتوسع من ناحية ثانية، ولكن ذلك غير كاف لأن الاحتلال لا يحتاج إلى ذريعة حقيقية لتوسيع الحرب وهو يمكن أن يقدم على هذه الخطوة طالما أنه يدرك أنه يتمتع بغطاء خارجي ودعم منقطع النظير. بهذه المعاني فإن الأيام والأسابيع المقبلة قد تكون حاسمة لناحية الانزلاق نحو الحرب المفتوحة إذا قرر الاحتلال الذهاب بهذا الخيار، وقد تسبق هذه الحرب كل مساعي التهدئة المبذولة والوساطات التي تعمل من أجل إنهاء الحرب في غزة وحتى في جنوب لبنان، وقد كشف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في لقائه التلفزيوني الأخير عن مسألة في غاية الخطورة بعد لقائه الموفد الخاص للرئيس الأمريكي، آموس هوكشتاين، عندما تحدث بثقة عن وقف لإطلاق النار في غزة قبل شهر رمضان، أي خلال الأيام القليلة المقبلة، في حين أشار إلى أن جبهة جنوب لبنان ستكون محل نقاش خلال شهر رمضان، بمعنى آخر إن هذا النقاش قد يكون تحت النار كما كان في غزة، وهو ما يحمل مؤشر خطير على أن جبهة الجنوب قد يحسم أمرها حربا أو سلما خلال شهر رمضان المبارك، فاستعدوا أيها اللبنانيون.

حياد لبنان... بين الحقيقة والخداع
العدد 1603 /28-2-2024 د. وائل نجم

لم يعد يجدي الحديث عن حياد لبنان وطائرات الاحتلال الإسرائيلي تقصف في شمال البقاع في بعلبك وفي شمال وجنوب مدينة صيدا في جنوب لبنان، وفي عمق مدينة النبطية وسط الجنوب، وقبل ذلك في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت. لم تعد الدعوة إلى الحياد تنفع وقادة الاحتلال الإسرائيلي يهددون بتحويل بيروت إلى رماد، وينشرون فيديوهات لمناطق لبنانية آمنة في عمق الداخل اللبناني ويزعمون أنها تضم أنفاقا ومنصات عسكرية، في وقت يدرك الجميع أن تلك المزاعم هي من قبيل التهديد والتخويف والزج بلبنان في أتون ما يجري. لقد بات واضحا أن ما يجري من عدوان وحرب على غزة في فلسطين، بل على كل فلسطين، هي حرب يراد لها أن تشكل المنطقة من جديد، أو تكون مقدمة لتشكيل المنطقة من جديد وفق المصالح الإسرائيلية ومصالح الدول الداعمة ل "إسرائيل"، وعليه فإن هذا التشكل الجديد لن ينظر إلى مصالح لبنان أو غيره من الدول إلا بمقدار ما يتحقق ل "إسرائيل" وداعميها من مصالح، وبالتالي فإن من سيقرر النتائج لهذا التشكل الجديد هي القوى المشاركة أو الفاعلة والمؤثرة بالمشهد العام في المنطقة، وليس الذين يقفون على رأس التلة ينتظرون الفائز ثم ينضمون إليه. صحيح هؤلاء المنتفعون سيحصلون على شيء من الجائزة، ولكنها ستكون الفتات. انطلاقا من ذلك لم تعد الدعوة إلى الحياد تنفع، ولا الحديث عنه له قيمة، فالزمن تجاوز ذلك، والميدان بات له اعتبارات أخرى. كما أن التلاوم ورمي الاتهامات يمينا وشمالا لم يعد يقدم أو يؤخر في المشهد، بل ربما على العكس قد يكون له تأثير سلبي أكثر منه إيجابيا. التركيز بعد اليوم يجب أن يكون على المستقبل. مستقبل المنطقة ومنها لبنان. التركيز والتفكير بشكل منطقي ومسؤول بعيد عن العواطف والاصطفافات وتصفية الحسابات الضيقة والخاصة. ومن هنا فإن اللبنانيين مدعوون إلى التفكير الجدي والحقيقي في كيفية الحفاظ على لبنان ومصالحه، وفي الصيغة التي تجنبه أن يكون "ضحية" على طاولة القوى الدولية ومعها الاحتلال الإسرائيلي، في حين أن المطلوب أن يكون قوة مؤثرة وصانعة للحدث الذي يحفظ دوره ومصالحه في المنطقة وهو يملك من القوة والتأثير ما يجعله قوة مؤثرة وفاعلة في المشهد ، لأن لبنان حتى لو أخرج نفسه من المشهد فإن الاحتلال وداعميه لن يخرجوه من المشهد ولا من تفكيرهم وأطماعهم وأحقادهم. الحديث بعد اليوم عن الحياد، خاصة الحياد عما يجري في فلسطين هو نوعا من عدم رؤية الحقيقة، أو على أقل تقدير هو نوع من دس الرأس بالرمل على ما فعلته النعامة ذات يوم معتقدة أن الصياد لن يراها بعد ذلك، في حين أنها كانت تمارس نوعا من خداع الذات الذي لا يلغي الحقيقة ولا يغير من المشهد. اللبنانيون مدعوون إلى عدم خداع أنفسهم بعدم رؤية حقيقة ما تتجه إليه المنطقة أو التسليم للانهزام النفسي طمعا بالأمن الوهمي الذي سرعان ما ينكشف ويزول بعد أن يكون المشهد قد استقر على هيئة لبنان ليس جزءا من صناعتها.

حرب فلسطين حرب كلّ المنطقة
العدد 1602 /21-2-2024 د. وائل نجم

قرابة خمسة أشهر من العدوان الصهيوني المستمر والهمجي استهدف كلّ شيء في غزة فألحق بها دماراً كبيراً، ناهيك عن أعداد الشهداء من الأطفال والنساء والمدنيين. وقرابة خمسة أشهر أيضاً من الاعتداءات والممارسات الصهيونية المجرمة والمستبدّة بحقّ أهالي الضفة الغربية والقدس لا تماثل ما كان يجري سابقاً من ممارسات واعتداءات بل فاقتها حجماً وبشاعة وإجراماً. ومثل ذلك من إجراءات وقوانين تعسّفية اتخذتها سلطات الاحتلال الصهيوني بحقّ الفلسطينيين من أهالي أراضي 48 على الرغم من أنّ أغلبهم يحمل الجنسية الإسرائيلية. وعدوان واضح ومستمر أيضاً على لبنان بالتزامن مع العدوان على غزّة والضفة والقدس. ونوايا خبيثة وباتت واضحة في خطط الصهاينة لتهجير الفلسطينيين من غزة نحو سيناء والشتات، ومن الضفة والقدس نحو الأردن، ومن أراضي 48 نحو لبنان. باختصار الحرب التي تجري على الأراضي الفلسطينية هي حرب كلّ المنطقة وليست حرب فلسطين فحسب. لقد بات واضحاً أنّ الصهاينة يعملون بدعم غربي واسع ومفتوح على تغيير معالم المنطقة برمتها. يعملون على إعادة رسم خريطة دول المنطقة تقسيماً وعبثاً بها وإعادة تشكليها من جديد بحيث تنسجم مع تطلعاتهم وتخدم أهدافهم وتضمن سيطرتهم على المنطقة وثرواتها لعقود جديدة إن لم نقل لقرون. لم يعد هناك ما هو خفي، كلّ شيء بات على المكشوف، والمشروع الصهيوني الغربي يريد ضمان السيطرة والتحكّم بالمنطقة ودولها. أمام ذلك لم يعد هناك مكان للحياد، لأنّ المخطط يطال الجميع، وما هو غير واضح اليوم سيكون واضحاً وبارزاً بشكل جلّي غداً، ولذلك لم يعد هناك مكان للحياد، ولا للتبرير وإقناع الذات أنّ "إسرائيل" لا تعتدي عليها لا تعتدي عليك، وهي بالأساس كيان قام على العدوان والاغتصاب والهيمنة! في لبنان حيث تدور الحرب على الجبهة الجنوبية منذ الثامن من تشرين الأول / أكتوبر الماضي ضمن ما يُعرف بقواعد الاشتباك بدأت الأمور تتحوّل إلى منطق مختلف تماماً. فالعدو الإسرائيلي بدأ يوسّع من دائرته اعتداءاته خارج هذه القواعد وم المتوقّع أن يصعّد في هذا الاتجاه أكثر من قبل، وأن يجرّ المنطقة إلى حرب ومواجهة أكبر وأعمق وأوسع وهذا في سياق تحقيق مشروعه للمنطقة. في مقابل ذلك فإنّ المقاومة في لبنان ما تزال تعمل ضمن قواعد الاشتباك وتفضّل عدم الذهاب إلى الحرب المفتوحة والواسعة مراعية بذلك قلق وخوف جزء من اللبنانيين الذين يطرحون فكرة الحياد والابتعاد عن الحرب المندلعة في فلسطيين والاكتفاء وبالتأييد والدعم الإعلامي من دون أيّة ترجمة عملية لذلك، بينما أطماع "إسرائيل" في لبنان كما ذكرت آنفاً في المنطقة لم يعد خافية وبات الحديث فيها يجري على المكشوف، ولذلك فإنّه من الخطأ الفادح الإصرار على التفكير الذي ساد خلال الفترة السابقة لناحية الحياد وعدم الانخراط في المواجهة، لأنّنا حتى لو قرّرنا – نحن في لبنان ذلك – فإنّ الطرف الآخر (العدو) قرّر شيئاً مختلفاً ومغايراً؛ قرّر إخطاع كلّ المنطقة لسيطرته وسطوته ومشروعه، ولن يرحم أحداً إلا بمقدار تحوّله إلى "عبد" لدى الصهاينة. آن لنا في لبنان، وفي المنطقة أن ندرك ونعي أنّ حرب فلسطين هي حرب كلّ المنطقة وستطال إمّا بأدواتها وإمّا بمفاعيلها ونتائجها كلّ المنطقة وسيدفع الجميع ثمن ذلك إذا بقي كلّ فريق في المنطقة يتعاطى ويتعامل وكأنّ النار في دار جاره ولا علاقة له بها، في حين أنّ النار التي بدار جراك ستنتقل عاجلاً أم آجلاً إلى دارك، وبالتالي من الخطأ تجاهل هذه الحقيقة لأنّ تجاهلها وعدم رؤيتها لا يلغيها ولا يلغي خطرها. آن لنا أن ندرك أنّ الانخراط في هذه الحرب اليوم ربما تكون كلفته علينا وعلى مستقبل الأجيال المقبلة أقلّ كلفة من تجاهل ذلك لأنّه في حال تمكّن الإسرائيلي من فرض معادلاته في فلسطين سينتقل إلى فرضها في كلّ المنطقة وبالتالي سيكرّس هيمنته عليها بعد أن يكون قد سرق خيراتها وثرواتها واستبدّ بشعوبها وأجيالها المقبلة.

الجبهة الجنوبية .. وردع توسّع الحرب
العدد 1601 /14-2-2024 د. وائل نجم

الأخبار التي ترد من جبهة جنوب لبنان توحي أنّ احتمالات توسّع الحرب نحو لبنان تتصاعد بشكل يومي ومثير. فحزب الله الذي دخل الحرب والمواجهة منذ اليوم الثاني لمعركة "طوفان الأقصى" على قاعدة المشاغلة وإرباك الجيش الإسرائيلي، وصرّح عن ذلك في مناسبات كثيرة، انه بات اليوم أكثر حذراً من توسّع الحرب نحو لبنان. فقد تصاعدت المواجهات على الجبهة الجنوبية اعتباراً من الثامن من أكتوبر الماضي وهذا ما دفع ساكني المستوطنات شمال فلسطين المحتلة إلى النزوح نحو الداخل، وهو ما شكّل ضغطاً إضافياً على الحكومة الإسرائيلية أضيف إلى ضغط المستوطنين الذين نزحوا من غلاف غزّة نحو الداخل أيضاً. كما أجبرت المواجهات على الجبهة الجنوبية إسرائيل على استنفار قسم كبير من الجيش الإسرائيلي على الحدود مع لبنان، واستنزافه يومياً في هذه الجبهة، وهو ما جعل قيادة الاحتلال الإسرائيلي تتوعّد بالانتقام لذلك، وتوجيه ضربات إلى لبنان وإلى المقاومة فيه، وقد تجاوزت قيادة الاحتلال الخطوط الحمر وما يُعرف بـ "قواعد الاشتباك" أكثر من مرّة كان آخرها محاولة اغتيال قيادات في مدينة النبطية جنوب لبنان، وفي ساحل الشوف في بلدة جدرا الساحلية شمال مدينة صيدا. اليوم، تصاعدت التهديدات الإسرائيلية للبنان ودخل على هذا الخط وساطات أوروبية وغيرها نقلت مطالبات إسرائيلية بضرورة تراجع المقاومة إلى شمال نهر الليطاني، وفي حال لم يتمّ ذلك عن طريق الدبلوماسية فإنّ الاحتلال سيعمد إلى التصعيد عسكرياً، وفي هذا الجو بدأت الجبهة الجنوبية تتحوّل من المشاغلة إلى ردع الحرب. لقد بدأت المقاومة وفي طليعتها حزب الله تستخدم قوة الردع حتى لا يلجأ الإسرائيلي بعد وقف العدوان على غزة إلى فتح الجبهة الجنوبية وحتى لا يشنّ عدواناً آخر على لبنان. لقد لجأ حزب الله إلى استخدام أسلحة نوعية من الصواريخ الدقيقة ونشر ذلك عبر وسائل الإعلام في رسالة تحذير وردع للإسرائيلي تهدف إلى منعه من التفكير بشنّ عدوان على لبنان أكثر مما تهدف إلى أي شيء آخر، وقد نشر الحزب صوراً لكيفية عمل هذه الصواريخ الدقيقة التي لا تخطىء هدفها، وكيف يستطيع أن يوجّهها إلى الهدف بكل سهولة ويُسر وهو ما يعني أنّه يستطيع أن ينسف أيّ هدف إسرائيلي، علّ ذلك يشكّل تهديداً وتحذيراً للإسرائيلي من الإقدام على شنّ عدوان على لبنان لأنّ كلفة أي عدوان على لبنان ستكون عالية جدّاً. كما أكّد الحزب من خلال هذا الاستخدام على أنّ حديثه عن امتلاك صواريخ دقيقة ليس ترفاً بل حقيقة واقعة وواضحة، وبالتالي على الإسرائيلي أن يفكّر ألف مرّة قبل أن يُقدم على أيّة مغامرة غير محسوبة، وبهذا المعنى فإنّ المواجهات في جبهة جنوب لبنان مع فلسطين المحتلة تحوّلت حالياً من المشاغلة إلى ردع الحرب ولكنّها لا تضمن وقف الجنون الإسرائيلي الذي ليس له حدود بعد فشله في تحقيق أيّ إنجاز حقيقي في غزةّ.

12345678910...