الشيخ نزيه مطرجي

إذا كانت الأزمنةُ تَتبارى فيها الشـُّرور والمفاسِد، والمِحن والشّدائد، فلا يأتي زمانٌ إلاّ والذي بعدَه شرٌّ منه على امتداد القرون والدُّهور، حتى تقومَ الساعة ونَلقى العزيز الغَفور، كما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن يُؤْيِسَنا هذا القَضاء المَسطور من رحمة الله، ويُقنطَنا من انتِظار الفرَج بعد الشِّدة، والْتِماس المَخرَج بعد المِحنَة.
إن من صُنوف الفَساد في العباد تخلِّي الآباء عن تربية الأبناء وتهذيب نُفوسِهم، وتَقويم سُلوكهم، والله تعالى يأمُر بتعَهُّد الأَبناء والحِرص على هِدايتهم وإنقاذهم، فيقول عز وجلّ: {يا أيها الذين آمَنوا قُوا أنفُسَكم وأهلِيكم ناراً وَقودُها النَّاسُ والحِجارةُ عليها مَلائكةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعصون الله ما أمَرَهُم ويَفعَلون ما يُؤمَرون} التحريم-6.
لما نزَلَت هذه الآية قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله نَقِي أنفُسَنا فكيف نَقي أهلَنا؟ قال: «تَنْهونَهم عمّا نَهاكُم الله وتأمُرونَهم بما أمَر الله».
إن راعِيَي الأُسرة إذا غابا وقصّـَرا، وانصَرفا عن وظائف البيت الكُبرى إلى شؤون العمل وشجونِ الحياة، واسْتَغرَقا في أمور الدُّنيا فإن الرَّعِيَّة تَنشأُ نَشأة الأيتامِ على فُتاتِ مَوائد اللّئام، وتعيش عِيشة المُشرَّدين الرّاجين عَطفَ المُحسِنين، والشاعر يقول:
ليس اليَتيم مَن انتهى أبواهُ من
هَمّ الحياة وخَلَّفاه ذَليلا
إن اليتيم هو الذي تَلْقى له
أمّاً تَخَلَّت أو أباً مَشغولا
لقد ألحَّ النبي صلى الله عليه وسلم على تَوجيه الأَبَوين إلى رِعاية حُقوق الأبناء وحِماية حُصون الأُسرة فقال: «الرَّجُل راعٍ في أهلِه ومَسؤولٌ عن رَعِيَّته، والمرأةُ راعيةٌ في بيتِ زوجها ومَسؤولةٌ عن رَعِيَّتِها..» مُتفقٌ عليه. وليس يُكتفى بِتَعْويد الأولادِ على إقامة الصلاة، بل يَتَوَجَّب على الآباء أَن يُنَشِّئوا أَبناءَهم على امتثال أومر الإسلام، واجتناب نواهيه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مُروا أولادكم بامتثال الأوامر واجْتِناب النَّواهي، فذلكَ وِقايةٌ لكُم ولَهُم من النار» رواه ابن جرير.
إنّ الولَدَ فِلذةٌ من الكَبِد وحَبَّةٌ من القلب ونَسْمَةٌ من النَّفْس، يَجدُ الوالد فيه لَذَّةَ العَيش وسعادةَ الحياة، ويَوَدُّ لو يرى فيه ضالّتهُ، ويُحقِّق طُموحَه وآمالَه، غير أن أكثرَ الآباء يُفَرَّطون في واجِب التَّربية، ولا يُدرِكون مُرادها.
تَرى الوالدَ يُرخِي لولدِه العَنان، ويُسايِره في كُلِّ ما يَميل إليه، ويَدَعُه نَهباً للرَّغبات والشَّهوات، وعُرضةً لِقُرَناء السُّوء ودُعاة الفَساد والشّـُرور، وحين يَكبُر أولاده يُفجِعُه حالُهم وخِصالُهم، فمنهم مَن طبَع العُقوقُ على قلبه، ورانَ الشَّقاءُ على صَدره، ومنهم من طوَّق الشَّـرُّ نَفسهُ وامْتَلَك جَوارحه.. فيكونُ الأبناء سبَب تعاسةِ آبائهم، ومَصْدرَ آلامِهم ونَكَد عَيشِهم! والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمَنوا إنّ مِن أزواجِكُم وأولادِكُم عَدُوّاً لكُم فاحْذَرُوهم} التغابن-14.
ذكَر أحدُ الأُدباء أن ولداً لِرَجلٍ ثَريٍّ أهمَل والِدُه تهْذيبَه والعِناية به، فنَشأ مُسرِفاً في لَهوِه ومُجونه، فاتَّفَق أن رآهُ والِده يوماً واقِفاً أمام صُندوق أمواله الحديديّ وهو يُناجيه بهذه الكلمات: أيها الصُّندوقُ الحَدِيديّ! متى أُسَلَّم مِفتاحك؟ أيتها الأموال المُودَعة فيه متى تُطْلَقُ يدي فيك؟ أخبِرني متى يموت أبي؟ ذلِك الهَرِمُ الذي أفناهُ الدَّهرُ وطال بهِ العُمُر، حتى أضُمُّك إلى صدري؟! متى تكونُ لي وحدي الصَّديق الحَميم؟ أوّاه! أوّاه! ثم شعَر بأن أباه كان يسمع أقْوالَهُ فبُهِتَ وارْتَبَك، ولم يَنبَس ببنتِ شَفَة!
فقال له أبوه غاضِباً ثائراً: تبّاً لك من ولد! 
ولا نَعِمَت عيناكَ من مَولود!
يا خَيبةَ الآمالِ فيك! 
ولقد يصحُّ أن يُقال: تبّاً لك من أبٍ أهمَلَ وَلَده حتى صار عليه شَرّاً من الأفاعي وأضرَّ من الضَّواري.
إِعلَم أن النَّوى أوَّل الشَّجر، فإذا اعْتَنَيْتَ بالحَرْث، وتَعَهَّدْتَ الغَرْس، فإنه يَربو ويَهتَزّ، ويُؤتي أُكُلَه جَنِياً، وإن تَرَكتَ زَرْعَك وأَسْلَمْتَه إلى الإهمال ذَوَى وحلَّ به الجَفاف، وأصبح هَشيماً تّذروهُ الرِّياحَ.
فيا صاحب البناتِ والبَنين! متى تَصْحو مِن رَقْدَتِك؟ وتَنتَبِه من غَفْلَتِك؟ تَدارَك حقَّ صِغارِك في التَّهذيب والتّأديب، وإيّاك أن تَعصِيَ أمْرَ الجَليل أو تُقيلَ وتَستَقيل!