الشيخ نزيه مطرجي

كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّثُ الناس حديثَ المَوعظة والهداية والنصيحة في كلِّ يوم خميس، فقال له بعض الحاضرين يوماً مُتأثِّرين بأدبه ومُتَّعظين بهَديِه: «لَوَدِدْنا أنَّك ذكَّرتَنا كلَّ يوم!» قال: «أمَا إنه يمنعُني شيء من ذلك أنّي أكرهُ أن أُمِلَّكُم، وإني أتَخَوَّلُكم بالمَوعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتَخَوَّلُنا بها مخافةَ السآمة عليكم» رواه البخاري.
إن الموعظة والتذكرة واجب شرعي من أعمالِ الأمْرِ بالمعروف والنَّهْيِ عن المُنكر، وهي شُعبَةٌ من شُعَب الدعوة إلى الله التي لا يقوم الدين بدونها، ولا تنتشـر الدعوة إلاَّ بها.. وهي وظيفة من وظائف الأنبياء والمُرسَلين التي تتوارثها الأمةُ كابِراً عن كابِر، ووارِثاً عن ناقِل!
إن المؤمنين مُكَلَّفون باتباع سُنن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بنهجه وطريقته، ولا يحقُّ لهم أن يُحرِّفوا أو يُبدِّلوا، ولا يحلُّ لهم أن يَسْتَحسِنوا ما استَقْبَح النبي صلى الله عليه سلم، ولا أن يَسْتَقبِحوا ما استَحْسَن!
لو أراد ابنُ مسعودٍ أن يُحدِّثَ كلَّ يومٍ كما رغب الصحابة والمسلمون لما عَجَز عن ذلك، فقد كانت ينابيعُ الحِكمة تَتفجَّرُ من قلبه وصدرِه يفيضُ بها لسانُه، بفضل لزومه النبي صلى الله عليه وسلم وإصغائه إليهِ في كل مَجالسه، وكلِّ بيانه وخِطابه.
ورُغم ما أوتي هذا الصحابيُّ الجليل من نَبْعٍ ثَرٍّ فيّاضٍ بالعِلم والفقه والمواعظ، فما كان لابن مسعود أن يُخالِف هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم في تخوّلِه بالمَوعظة، وفي بلاغته وإيجازه! حتى إن الصحابة الكرام كانوا يُسارِعون في حِفظ مَواعِظ النبي صلى الله عليه وسلم وتَوجيهاته في صُدورهم وقلوبهم، وينْقُلون ما سمعوه إلى إخوانهم بِدِقَّة وأمانة، وبلاغة وعِناية.
إن على المتكلِّم والواعظ والخطيب والمُحدَّث أن يكون كلامُهم على قَدْر الحاجة من الوضوح والبيان، فالاعتدالُ هو الأقربُ إلى عُدْوَة البلاغة، ومُجاوَرة الكمال. إن نبيَّ الهُدى والرحمة هو سيّدُ مَن نطَق بالضَّاد، وأبلَغُ مَن أوجَز في المقال، فإذا قالوا إنه لا يقدر على امتلاك مِثلِ مَنطِقه أحَد، فإن على العُلماء والخُطباء والحُكَماء أن يسعوا على أن لا يأتي كلامُهم خَصْماً (أي عيباً) إن قُصِر، ولا هَذَراً إن كثُر (كما ذُكِرَ!).
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسـرُدُ كَسرْدِكُم هذا، ولكنْ كانَ يتكلَّم بكلامٍ فَصْلٍ بَيِّنٍ يحفَظُه مَن جلَس إليه، ويتكلَّم بجوامع الكلِم..».
يتبيَّن لنا في مُخالطة الناس عامَّتِهم وخاصَّتِهم أن مِن مظاهر الفِتَن التي عَصَفت بالكثير من العلماء والخُطباء والدُّعاة إلى الله أنهم يُكثِرون الكلام ويُقِلُّون السُّكوت، ولا يكادُ أحدُهم يُرى صامِتاً أو مُنصِتاً! وإذا كان قِصَرُ الكلام يُعدُّ عَيْبُه حَصراً، فإن كثرةَ الكلام يُعدُّ عَيْبُه هَذَراً، وكِلاهُما في البيان شَيْنٌ، وإن كان شَيْنُ الهَذَر أشْنَعُ من شَيْنِ الحَصْر!
إنّ حامِلَ مِيراثِ النبوّةِ من العُلماء والدُعاة إلى الله يدعوهُ دَورُه الرائد إلى التحلّي بالخِصال اللطيفة التي تُحبِّبُه العباد ليَتَمَكّن من الوُلوج إلى القلوب، والقَبْضِ على أعِنَّة الصُّدور.
ربما تجدون الفِئام من الدعاة والعلماء والهُداة يعيشون في أوساط الناس ويُحدِّثونَهم ويُصاحِبونَهم، ولكنَّ الأثر الذي يترُكُه أكثرُ هؤلاءِ في القُلوبِ باهتٌ كأثرِ قِرصِ الشمس عند الغُروب! فما أكثرَ الشَّجَر وليس كلُّه بمُثمِر، وما أكثرَ الثَّمر وليس كلُّه بطيِّب، فيا داعي الخيرِ تعلَّم من أينَ تُؤكلُ الكتِف، وكيف تُورَدُ الإبِل؟!