العدد 1545 /11-1-2023

للشيخ عصام تليمة

ما إن أعلنت عن صدور الطبعة الأولى لكتاب (في ظلال القرآن) للشهيد الأستاذ سيد قطب رحمه الله، حتى انهالت تعليقات كثيرة على الطبعة، بين مؤيد ومعارض، ولكن ما لاحظته في رفض المعارضين ـ في الرفض الذي كان مؤدبا وفيه كلام يتسم بشيء من العلمية ـ أنهم يرفضون أن أنشر طبعة قد طور فيها صاحبها بحسب قولهم، بأن سيد زاد وأسهب في أجزاء منها، وقد نقل عنه أن هذه المرحلة هي التي تمثل فكره.

وقد استشهد بعضهم برفض ما قمت به بشقيقه الأستاذ محمد قطب رحمه الله، وقد ذهبت إليه أستأذنه قديما (منذ 25 عاما) في نشر كل أعمال الأستاذ سيد، ورفض وقتها نشر أي شيء يتعلق بسيد، سوى ما يمثل مرحلته الأخيرة، وهي نقطة جديرة بالمناقشة: هل التراث الفكري لإنسان، يعد ملكية خاصة له فقط؟ نفهم ذلك فترة حياته، فيعيد نشر ما يشاء، ويمنع ما يشاء، من حيث الحق القانوني للنشر، لكن الحق الشرعي للنشر والاستفادة العلمية، مسألة مختلفة تماما.

من يرفضون عملي العلمي، يستشهدون بأن أخاه محمد قطب لم يفعل ذلك في الظلال، فلم ينشر إلا آخر ما انتهى إليه سيد، وما يستدلون به هو دليل ضدهم لا معهم، فسيد نقح من الظلال ما يقترب من نصفه، وبقي النصف الآخر لم ينقح، أي: لم يزد عليه، ومع ذلك عند نشر الظلال لم ينشر محمد قطب الأجزاء المنقحة فقط، بحكم أنها تمثل فكر سيد الأخير حسب ما يعلنه الرافضون، بل نشر الأجزاء الباقية التي لم تنقح.

وذلك لأنه يرى أنه من الصعب نشر تفسير للقرآن في نصفه فقط، بينما صاحبه مر على النصف الآخر، وهو فكره وإن زاد عليه، فإذن لم يلتزم المقرون والمحبون لسيد برغبته كما يعلنون، وما جاز لهم من باب المنفعة العامة فعله، جاز لغيرهم أيضا.

وقد رأيت هذا السلوك العلمي في منهج محمد قطب، وقد مارسه رحمه الله، وذلك في أشهر كتبه على الإطلاق، وأكثرها توزيعا، وترجمة، وهو كتاب: (شبهات حول الإسلام)، فقد كان يعرض الشبهة التي تثار حول الإسلام، ثم يرد على هذه الشبهة، بالحجج والبراهين القرآنية والعقلية، ولكنه بعد أن طبع عشر طبعات وأكثر، سواء التي بإذنه أو بدون إذنه، كتب في مقدمة الطبعة الحادية عشرة، تراجعه عن هذا المنهج، فكتب يقول:

"لقد هممت أكثر من مرة أن ألغي هذا الكتاب من قائمة كتبي، ولا أعيد طبعه!

وإني لأعلم أن هذا الكتاب بالذات هو أوسع كتبي انتشاراً وأكثرها طباعة، سواء في طبعته العربية أو في ترجماته التي ترجم إليها، باللغة الإنجليزية وبأكثر من لغة من لغات العالم الإسلامي، وسواء في طبعاته المشروعة التي طبعت بإذني وعلمي، أو طبعاته الأخرى التي طبعت بغير إذن مني ولا علم!

وإني لأعلم كذلك أن أكثر قراء هذا الكتاب هم من الشباب المسلم المتحمس بالذات، لأنهم يجدون فيه الرد على بعض الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام في طريقهم، ولا يجدون الرد عليها حاضراً في أذهانهم، وأن الكتاب - لهذا - كان من بين أسلحة الشباب المسلم التي يخوض بها معركة الجدل مع أولئك الأعداء.

ومع علمي بهذا وذلك فقد هممت أكثر من مرة أن ألغي الكتاب من قائمة كتبي ولا أعيد إصداره!".

ثم بين محمد قطب علة قراره وهمه بأن يوقف طبع الكتاب، بل يلغيه من قائمة كتبه، فقال: (ولم يكن ذلك لأنني غيرت موقفي من "المعلومات" الواردة فيه ـ فيما عدا تعديلاً واحداً في فصل "الإسلام والرق" ـ ولكن لأنني غيرت موقفي من "منهج" الكتاب ذاته.

إن المنهج الذي يسير عليه الكتاب في صورته الراهنة هو إيراد الشبهة التي يثيرها أعداء الإسلام، ثم الرد عليها بما يبطلها. وذلك هو المنهج الذي تغير موقفي منه، فأصبحت أجد نفسي اليوم غير موافق عليه. ذلك لأنه يعطي الشبهة لونا من الأهمية لا تستحقه، ولوناً من الشرعية يستوجب منا الاحتفال والاهتمام. ثم.. كأنما دين الله المنزل في حاجة إلى جهد منا ـ نحن البشر ـ لإثبات أنه بريء من العيوب!

ومع ذلك فإن تجربتي في حقل الكتابة الإسلامية والدعوة الإسلامية خلال تلك الفترة من الزمان، قد دلتني على أن الرد على الشبهات ليس هو المنهج الصحيح في الدعوة ولا في الكتابة عن الإسلام.

إن المنهج الصحيح هو عرض حقائق الإسلام ابتداءً لتوضيحها للناس، لا رداً على شبهة، ولا إجابة على تساؤل في نفوسهم نحو صلاحيته أو إمكانية تطبيقه في العصر الحاضر. وإنما من أجل "البيان" الواجب على الكتّاب والعلماء لكل جيل من أجيال المسلمين. ثم لا بأس ـ في أثناء عرض هذه الحقائق ـ من الوقوف عند بعض النقاط التي يساء فهمها أو يساء تأويلها من قبل الأعداء أو الأصدقاء سواء!

وفي مثل هذا الجو في الحقيقة كانت ترد ردود القرآن على شبهات المشركين وأهل الكتاب!

ثم إن التجربة قد دلتني على شيء آخر.. إن معركة الجدل التي يخوضها الشباب المسلم المتحمس مع أعداء الإسلام، لا تستحق في الحقيقة ما يبذل فيها من الجهد!

إن المنهج الصحيح هو عرض حقائق الإسلام ابتداءً لتوضيحها للناس، لا رداً على شبهة، ولا إجابة على تساؤل في نفوسهم نحو صلاحيته أو إمكانية تطبيقه في العصر الحاضر. وإنما من أجل "البيان" الواجب على الكتّاب والعلماء لكل جيل من أجيال المسلمين.إن الكثرة الغالبة من هؤلاء المجادلين لا تجادل بحثاً عن الحقيقة ولا رغبة في المعرفة، وإنما فقط لإثارة الشبهات ومحاولة الفتنة.

والرد الحقيقي عليهم ليس هو الدخول في معركة جدلية معهم، ولو أفحمهم الرد في لحظتهم.

إنما الرد الحقيقي على خصوم الإسلام هو إخراج نماذج من المسلمين تربت على حقيقة الإسلام، فأصبحت نموذجاً تطبيقياً واقعياً لهذه الحقيقة، يراه الناس فيحبونه ، ويسعون إلى الإكثار منه، وتوسيع رقعته في واقع الحياة.

هذا هو الذي (ينفع الناس فيمكث في الأرض)، وهذا هو مجال الدعوة الحقيقية للإسلام.

لهذه الأسباب كلها هممت أكثر من مرة أن ألغي الكتاب من قائمة كتبي ولا أعيد إصداره، رغم ما أعرف من إقبال الشباب عليه في أكثر من مكان في العالم الإسلامي، وفي أكثر من لغة من لغاته.

ولكن الأمر خرج من يدي بالنسبة لهذا الكتاب! فإن أنا منعت طبعته المشروعة، فلن آمن أن يطبع هنا وهناك بغير إذن مني، وبغير علم!

لذلك أكتفي ببيان هذه الحقيقة للناس، وبيان المنهج الصحيح الواجب الاتباع، ثم أعيد إصداره كما هو بغير تعديل، فيما عدا هذا التعديل الواحد الذي أشرت إليه في فصل "الإسلام والرق" تصحيحاً لبعض ما ورد فيه من مفاهيم".

أفلا نجد في نشر طبعة الظلال الأولى نفعا وفائدة علمية، من عدة نواحي وجهات، تعطي الحق في نشرها لهذه الفوائد والمنافع العلمية والتاريخية، والتي تبين بوضوح تطور فكر سيد قطب، وأين كان؟ وأين استقر؟ ولماذا؟!