العدد 1485 /3-11-2021

اختلاف في بنية المجتمع بين البلدين

بقلم: علاء بيومي

مقارنة الأحداث التاريخية الكبرى والنظم السياسية المختلفة مهمة في غاية الصعوبة، تتطلب الوعي بتفاصيل تلك الأحداث الضخمة والنظم وخلفياتها الثقافية والتاريخية. ولهذا تستعصى على باحثين كثيرين، لأسباب كثيرة، تتقدمها ندرة المعلومات والدراسات المتوافرة عن بلادنا وأحداثها الكبرى. وهنا أزعم أن ثورة 25 يناير (2011) في مصر لم تُبحث بشكلٍ كاف، ولم يُكتب عنها ما يتناسب مع أهميتها التاريخية الفائقة.

ومع أخذ التحدّي السابق في الحسبان، يحاول المقال الراهن عقد مقارنة أولوية بين انقلاب الجيش السوداني على شركائه المدنيين في 25 تشرين الأول 2021 وانقلاب الجيش المصري على تجربة التحوّل الديمقراطي في مصر في 3 تموز 2013، وتسليط الضوء على بعض أوجه الشبه والاختلاف المثيرة للاهتمام.

يتشابه الانقلابان في قيادة جيشي البلدين لهما ولأسباب متطابقة تقريباً، في مقدمتها شعور الجيشين بالمكانة المتضخّمة وبالأحقية في قيادة الدولة وبالسيادة على الشعب والمدنيين، وتوسّعهما خلال عقود الاستبداد سياسياً واقتصادياً، ما يعمّق مخاوفهما من أن سيطرة المدنيين على الحكم ستقلص نفوذهما الاقتصادي. توسّع الجيش المصري في الاقتصاد، بديلاً من السياسة والعسكرية، منذ نهاية السبعينيات. وأصبحت مصالحه الاقتصادية المتضخمة حجر عثرة أمام الإصلاحين، السياسي والاقتصادي، في مصر. وعلى المنوال نفسه، توسّع الجيش السوداني، وفقاً لتقارير مختلفة، في قطاعاتٍ أساسيةٍ، كالتنقيب عن الذهب، والزراعة والبناء، وباتت مصالحه الاقتصادية قيداً على أي محاولةٍ للانتقال المدني الديمقراطي.

كذلك يخشى قادة الجيشين من المحاسبة القانونية على الجرائم المرتكبة في حقوق المواطنين خلال فترات التحوّل. يخشى الجيش السوداني من محاسبة بعض قادته على دورهم في حرب دافور، وعلى قمعهم الثوار السلميين منذ ثورتهم على البشير في ديسمبر/ كانون الأول 2018، وخصوصاً بسبب الفضّ الدموي لاعتصام المدنيين أمام مقرّ قيادة القوات المسلحة في الخرطوم في 3 يونيو/ حزيران 2019، الذي راح ضحيته حوالى مائة متظاهر وربما أكثر. وفي مصر، قتل مئات خلال أسابيع الثورة الأولى، وارتُكِبَت عدة مذابح وجرائم في حق المتظاهرين منذ إطاحة حسني مبارك، وحتى الانقلاب على تجربة التحول الديمقراطي في 3 يوليو/ تموز 2013. ولعل خوف العسكريين من المحاسبة الشخصية وعلى المصالح الاقتصادية الجماعية هو من أهم أسباب الانقلاب في البلدين.

يتشابه الانقلابان أيضاً في دوافعهما وتبريراتهما، وفي مقدمتها الأزمة الاقتصادية وانقسام النخب السياسية. في السودان، لم تسعف أوضاع الاقتصاد السوداني المتدهورة خلال حكم عمر البشير حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، حيث تركت البلاد في عزلة دولية وصراعات داخلية مخيفة واقتصاد مكبل بستين مليار دولار من الديون. وعلى الرغم من نجاح حمدوك وحكومته في عقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي لإعفاء السودان تدريجاً من 50 مليار دولار من الديون، وتقديم حزمة من المساعدات الاقتصادية للبلاد، ما ساهم في استقرار سعر العملة السودانية وتحسّن طفيف في الميزان التجاري، إلا أن الاتفاق مع الصندوق أتى بشروط قاسية، ضمن اتفاقية توصلت إليها الحكومة السودانية بشقيها، العسكري والمدني، مع إدارة الرئيس الأميركي السابق، ترامب، للتطبيع مع إسرائيل، كذلك فرضت على الحكومة السودانية تعويم العملة، ورفع بعض الدعم، ما ساهم في وصول التضخم إلى معدّلات هائلة (أكثر من 400%)، وزاد من أعباء المواطن السوداني المعيشية.

وعلى المنوال نفسه، لم تسعف المساعدات الدولية الحكومات المصرية بعد ثورة يناير، حيث ظلت مقيدة بسيطرة الجيش وبالسياسات النيوليبرالية المفروضة من المجتمع الدولي، ما منعها من إجراء أي إصلاحات اقتصادية جادّة، كما لم يسعفها الوقت والصلاحيات لتحقيق ذلك أصلاً، ولم تتمكّن إلا من تحقيق إنجازات اقتصادية محدودة لم يشعر المواطن العادي بها، وهو الحال نفسه في السودان تقريباً.

كما استغل الجيش في البلدين انقسام النخب لتبرير انقلابه، وإنْ شهدت مصر نخبة أشدّ انقساماً بسبب الشرخ العميق بين النخب الليبرالية واليسارية من ناحية وجماعة الإخوان المسلمين وأنصارها من ناحية أخرى، حيث انضوى جزء كبير من النخب الليبرالية واليسارية ضمن ما عرف بجبهة الإنقاذ، التي شاركت في انقلاب يوليو 2013، وبرّرته وتولى بعض أشخاصها الحكم بعد الانقلاب، وسعوا إلى تبريره ومنحه الشرعية الدولية.

وفي السودان، استغل الجيش سلسلة من الخلافات التي تفاقمت في الأسابيع السابقة للانقلاب، كإضراب مجلس نظارات البجا في شرق السودان، وإغلاقه الموانئ والطرق الرئيسية المؤدية إلى منافذ السودان البحرية على البحر الأحمر، ما فاقم الأزمة الاقتصادية، وسعي بعض المليشيات والحركات السياسية إلى إنشاء كيان موازٍ لتحالف "الحرية والتغيير" المشارك في الحكم، واتهامه بعدم تمثيل مختلف أطياف المعارضة السياسية.

تشابه الانقلابان أيضاً في علاقاتهما الإقليمية، حيث تشير مصادر عديدة إلى العلاقات الوثيقة التي تربط كلاً من قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بكل من الإمارات والسعودية وإسرائيل، وهو المثلث الإقليمي نفسه الذي دعم الانقلاب في مصر، وساهم في ترويجه والدفاع عنه.

وفي مقابل أوجه الشبه السابقة، تظهر اختلافات مهمة، قد تساعدنا على فهم مكامن القوة والضعف في البلدين. يبدو الشعب السوداني أكثر وعياً بمخاطر الانقلابات العسكرية ورفضاً لها، وتمسّكاً بحكم المدنيين، وهو ما ظهر في المظاهرات الضخمة التي شهدها السودان يوم السبت الماضي (30 أكتوبر). وقد يعود ذلك إلى تكرر الانقلابات العسكرية في السودان، فيما لم تشهد مصر انقلاباً عسكرياً منذ 1952 وحتى 2013، ما سمح للجيش المصري بالسيطرة الفكرية والثقافية والإعلامية على عقول مصريين كثيرين، حيث نظروا إليه منقذاً خلال أسابيع الثورة الأولى، ولم يعوا كفاية دوره في الانقلاب المستمر على الثورة، أو حتى بانقلابه الكامل عليها في يوليو/ تموز 2013. وهنا يبدو الجيش المصري أكثر هيمنةً على عقول المصريين مقارنة بهيمنة الجيش السوداني على عقول شعبه، كما تبدو النخب السياسية المصرية أقل وعياً وأكثر انقساماً من نظيرتها السودانية.

ويبرز الدور الهام الذي تلعبه النقابات، كاتحاد المهنيين السودانيين، في قيادة الثورة السودانية منذ بدايتها، وهو دورٌ قد يتشابه مع دور الاتحاد التونسي للشغل الذي لعب دوراً مهماً في الثورة التونسية على بن علي، وفي معارضة الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها قيس سعيّد منذ يوليو/ تموز الماضي، على الرغم من معارضة الاتحاد حركة النهضة وسياساتها. في المقابل، لم تعرف مصر دوراً يذكر للنقابات أو الاتحاد المستقلة، ولم يكن لمنظمات المجتمع المدني المصري دور مؤثر خلال فترة التحول الديمقراطي، ولم تستطع التعالي عن الانقسام الايديولوجي العميق بين التوجهين، الديني والليبرالي اليساري الذي ابتلع غالبية قوى الثورة وعمّق الشرخ بينها، وساهم الجميع في تغذيته.

وهذا يعني أن المجتمع السوداني يتمتّع بقدر من التعدّدية والاستقلالية، مقارنة بنظيره المصري، الذي يعاني من هيمنة الجيش ومؤسسات الدولة المصرية على مختلف أوجه حياة المصريين، ومن تمكّن نظام 1952 من إضعاف مختلف مؤسسات المجتمع المدني والاتحادات والنخب السياسية لضمان سيطرته وهيمنته على السياسة والاقتصاد.

أخيراً، يبدو أن الظرف الدولي تغير، وأن شبكة علاقات مصر الدولية أكثر دعماً للاستبداد من نظيرتها في السودان، حيث مثّل الانقلاب على الثورة المصرية هدفاً مركزياً للنظم الاستبدادية في العالم العربي وإسرائيل، ساعد على ذلك الخوف الإقليمي والدولي من صعود جماعة الإخوان المسلمين، وقنوط إدارة أوباما من الربيع العربي وانقسامها بخصوصه. أما السودان الذي عاش في عزلة دولية فترة طويلة، ويسيطر على نخبه المدنية توجّه يساري، فيتمتع، أقله حتى اللحظة، بدعم أكبر لتجربته الديمقراطية، حيث أعلنت أميركا سريعاً وقف مساعداتها للحكومة السودانية، وضغطت للإفراج عن رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، الذي ما زال قيد الإقامة الجبرية في منزله، بعد أن كان محتجزاً. وربما عاد ذلك إلى اهتمام إدارة الرئيس الأميركي، بايدن، بوقف تمدّد الديكتاتوريات، حيث يعتزم بايدن عقد مؤتمر دولي للديمقراطيات في العالم، وربما كان يعود أيضاً إلى الإحراج الذي شعر به الأميركيون من انقلاب البرهان على شركائه المدنيين، بعد ساعاتٍ قليلةٍ من مغادرة المبعوث الأميركي، جيفري فيلتمان، الخرطوم، وبدون أي تحذير للأميركيين كما تذكر تقارير إعلامية أميركية. وما زال من المبكّر الحديث عن عمق الرفض الدولي لانقلاب السودان وفرص استمراره ونجاحه، فبعد انقلاب 3 يوليو (2013)، أوقفت الولايات المتحدة تسليم بعض المساعدات العسكرية لمصر عدة أشهر فقط، لتستأنفها بعد ذلك.

في الخاتمة، يمكن القول إن نظام 1952 في مصر نجح في بناء نظام سياسي شديد المركزية والهيمنة الاقتصادية والثقافية والسياسية على الشعب المصري، وفي إضعاف نخبه المدنية بشكلٍ مؤسف، مستغلاً الخلاف الديني العلماني، كذلك فإن وضع مصر الإقليمي جعلها هدفاً مركزياً وقاعدة للاستبداد الإقليمي والتحالف مع إسرائيل. ويبدو النظام السوداني، للوهلة الأولى، أقل مركزية وهيمنة من نظيره المصري، ويبدو شعبه أكثر رفضاً للحكم العسكري، وتبدو نخبه أكثر حركيةً ووحدة وتعدّدية من نظيرتها المصرية.