العدد 1503 /9-3-2022

من المرجّح أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، سينتصر في معركته ضد أوكرانيا، فكل المعطيات العسكرية تؤكّد أن موازين القوى بين روسيا وأوكرانيا، حتى بالدعم الغربي الذي تتلقاه، غير عادلة، لذلك من غير المنتظر أن يخسر الحرب في ساحة المعركة. لكن المؤكّد أنه سيخسر الحرب على المدى الطويل، حتى لو بسط سيطرة قواته على كل الأراضي الأوكرانية بقوة النار والحديد. وهنا بعض مؤشرات هذه الخسارة المرتقبة: أولها تلك التي لحقت بسمعة الجيش الروسي، الذي يصنّف ثاني أقوى جيش في العالم بعد جيش الولايات المتحدة، فقد أبانت عشرة أيام من حرب أوكرانيا افتقاده إلى التخطيط والاحترافية، رغم امتلاكه أحدث الأسلحة وأقوى العتاد، ففي الخمسة أيام الأولى من الحرب توفي 500 جندي روسي في ساحة المعركة، أي بمعدل سقوط مائة جندي يوميا، وهذا فقط حسب ما اعترفت به السلطات العسكرية الروسية! وخلال هذه الأيام العشرة فقط، نقلت كاميرات وسائل الإعلام صور أرتال من الدبابات والمركبات العسكرية الروسية محطّمة تلتهمها النيران، وتابع المشاهدون صور سقوط طائرات ومروحيات عسكرية روسية تحولت إلى كتلة من اللهب، تشبه التي تزخر بها الألعاب الإلكترونية، مع فارق كبير أن صور احتراق الطائرات وانفجار المروحيات الروسية حقيقة وليست افتراضا. الخسارة الأولى، إذن، هي خسارة هيبة ثاني أقوى جيش في العالم بالرغم من أنه يمتلك أكبر ترسانة نووية في التاريخ.

خسارة بوتين الثانية، ذات طبيعة دبلوماسية، وهذه من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها عندما دخل حربا واسعة ضد الغرب بدون حلفاء أقوياء، أو بالأحرى بدون حلفاء أصلا، كما أظهرت ذلك نتائج التصويت داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار وقف العدوان الذي أيدته 140 دولة، وامتنعت عن التصويت ضده 35 دولة من بينها دول معروفة بقربها من روسيا، بينما لم تعارضه سوى خمس دول: بيلاروسيا وكوريا الشمالية وإريتريا وسورية، بالإضافة إلى روسيا.

الخسارة الثالثة الكبيرة اقتصادية بالدرجة الأولى، لأن العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة التي فرضها الغرب على روسيا لن تسقط غدا بمجرّد ما تسكت المدافع، ولن تظهر نتائج آثارها المدمرة فورا، وإنما مع مرور الوقت، وهي كفيلةُ، لو استمرّت وقتا طويلا، وهذا مرجّح، أن تؤدي إلى التدهور الاقتصادي للبلاد التي تعتمد في صادراتها على الأسلحة والمحروقات والقمح، وتحتاج استيراد كل حاجياتها الأخرى من الخارج، وكلما اشتدّ طوق عزلتها المتزايدة ستسقط تدريجيا في الفقر والفوضى.

الخسارة الرابعة في هذه الحرب التي تكبدها بوتين وجيشه إعلامية بامتياز، بما أن كل حرب هي معركة من أجل الرأي العام، فأمام الآلة الإعلامية الغربية القوية ارتبطت صور هذه الحرب بصور المعاناة الإنسانية للاجئين الأوكرانيين، وبجرائم الحرب المتعدّدة التي خلفها القصف الروسي العشوائي للمباني السكنية، وبالغضب الشعبي المتعاظم في دول الغرب، والمتضامن مع أوكرانيا بسبب أكبر موجة لجوء تشهدها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقريبا سينتقل هذه الغضب إلى بقية دول العالم، عندما تشتعل الاحتجاجات في الدول الفقيرة ضد ارتفاع الأسعار نتيجة تداعيات هذه الحرب التي كان وراءها قرار رجل واحد مصاب بجنون العظمة، هو فلاديمير بوتين.

وكيفما كانت تطوّرات هذه الحرب، فإن روسيا ستخرج منها منهكة ومعزولة عن بقية العالم، حتى لو انتصرت في المعركة الميدانية، لأن ذلك لن يؤدي سوى إلى مزيد من العقوبات ضدها في كل المجالات الاقتصادية والرياضية والثقافية، وإلى عزلة سياسية ودبلوماسية وعسكرية كبيرة. أما إذا استمرت المقاومة الأوكرانية فستتحول أوكرانيا إلى مستنقع كبير، وتصبح المعركة حرب استنزاف طويلة الأمد لن تنتهي إلا بنهاية روسيا الحالية، وولادة روسيا جديدة. ويكفي العودة قليلا إلى الوراء، لنعرف أن نتيجة خسارة الإمبراطورية الروسية حربها ضد اليابان بداية القرن العشرين جاءت بالثورة البلشفية التي أنهت حكم القياصرة. وهزيمة أفغانستان نهاية ثمانينيات القرن الماضي عجّلت بتفكك الإمبراطورية السوفييتية. وخسارة بوتين حربه الحالية تعني نهاية حلمه بإعادة بناء الإمبراطورية الروسية، وربما نهاية الرجل نفسه.

وقد علمتنا دروس التاريخين، الحديث والقديم، أن الحكام المستبدّين عندما يخسرون حروبهم يفقدون هيبتهم قبل أن يفقدوا سلطتهم، وينتهي الأمر بسقوط استبدادهم. لذلك لا أفهم لماذا يهلل بعضهم لانتصار بوتين، فأي انتصار له هو انتصار للمستبدّين في العالم، ويكفي أن نتيجة دخوله عام 2015 الحرب السورية التي ما زالت مستمرة كانت تقوية استبداد بشار الأسد الذي قتل وهجر نصف شعبه ودمر نصف بلاده، ليبقى هو في الحكم. وتدخله في أوكرانيا عام 2014 كان ردّا على ثورة الميدان الشعبية في كييف، التي أطاحت حكومة فاسدة موالية لروسيا. وطوال مسار حكمة منذ 20 عاما، أجهض الديمقراطية الروسية الفتية، وحوّلها إلى لعبة كراسي بينه وبين "الدمى الروسية" التي كان يتبادل معها الأدوار، وشجّع المستبدين في العالم لأنه أعطاهم النموذج والمثل في قمع شعوبهم والتمسّك بعروشهم. والنتيجة هي ما شهده العالم طوال العقدين الماضين من حروبٍ أهلية داخل هذه الدول المستبدّة أو في ما بينها، وجرأة مستبدّيها على قمع شعوبهم وهضم حقوقها. وقد كشف تقرير حديث عن الديمقراطية في العالم، صادر عن معهد "في ديم"، التابع لجامعة غوتبرغ في السويد، عن ارتفاع عدد الأنظمة الاستبدادية المغلقة من 25 إلى 30 بين عامي 2020 و2021، وأكثر أنواع الاستبداد شيوعا ما وصفه التقرير بـ "الاستبداد الانتخابي" الذي أسّس له نظام بوتين.

بوتين ليس نموذجا يحتذى، نظامه استبدادي يقوم على زواج مصلحة فاسدة بين الدكتاتورية والأوليغارشية، تغذّيه أيديولوجية يمينية قومية متعصّبة للعرق الروسي، وأي نجاح له سيجيّره المستبدّون لأنفسهم لتعزيز استبدادهم. أما خسارته فلن تؤدّي حتما إلى انتصار الديمقراطية، لكنها ستضع أوروبا والولايات المتحدة والغرب عموما أمام تحدّياتٍ أساسيةٍ تتطلب منها مراجعة مواقفهم المخاتلة والمراوغة في منافقة المستبدين من أمثال بوتين في العالم وما أكثرهم في منطقتنا العربية، والكفّ عن تبنّي خطابات مزدوجة تكيل بمكيالين، كلما تعلق الأمر بحقوق العرب والمسلمين، وترجّح المصالح الآنية على المبادئ الثابتة.