العدد 1452 /10-3-2021

بعد أيام من الصمت الرسمي المصري إزاء الرسائل الإيجابية التي بدأت تعلنها الحكومة التركية تجاه القاهرة في الأسبوعين الأخيرين، وترحيب قيادات مختلفة في أنقرة منها وزيرا الخارجية مولود جاووش أوغلو، والدفاع خلوصي أكار، بما وصفوه بـ"احترام مصر للجرف القاري لتركيا خلال أنشطة التنقيب شرق البحر الأبيض المتوسط"، ظهرت أول من أمس الإثنين في وسائل الإعلام المصرية، بعض الأصوات التي يمكن وصفها بـ"شبه الرسمية"، لتؤكد عدم تغيّر موقف القاهرة الرسمي من أنقرة إلى الآن.

ولم يتطرّق البيان الرسمي الصادر عن لقاء وزيري الخارجية المصري سامح شكري واليوناني نيكوس ديندياس، أول من أمس، إلى مسألة العلاقات مع تركيا، مكتفياً بالإشارة إلى "متانة العلاقات بين القاهرة وأثينا واستمرار التشاور الثنائي على الأصعدة كافة". لكن بعد اللقاء ببضع ساعات، أزالت المخابرات العامة المصرية والأمن الوطني الحظر السابق الذي فرضه على تناول وسائل الإعلام المحلية لهذه المسألة؛ سواء بشكل إخباري أو تحليلي.

وعلى رأس من أدلوا بالتصريحات التي تعبّر عن الموقف المصري، العميد خالد عكاشة، مدير "المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية"، التابع للمخابرات العامة، والمقرّب حالياً من دائرة رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي. وقال عكاشة في مداخلة تلفزيونية له الإثنين، إنّ "مصر ودول المنطقة بحاجة إلى فعل حقيقي على الأرض يترجم التصريحات التركية الإيجابية، لأننا لا نتعامل مع أحاديث إعلامية"، مضيفاً "حتى هذه اللحظة لا ننسى أن الجانب التركي طعن كثيراً في خيارات الشعب المصري الذي يمتلك قناعة تامة بمشروعه الوطني، والشعب يحتاج تصحيحاً من الجانب التركي لما ارتكبه خلال السنوات السابقة". واستطرد عكاشة بأنّ "الأفعال لا الأقوال هي التي ستحدد موقف مصر من التعاطي مع المستجدات، في ظلّ تكهنات بأنّ تركيا تريد إعادة ترتيب الاستراتيجية لتصحيح أوضاعها حتى تتعاطى مع المجتمع الدولي والإدارة الأميركية الجديدة".

ويتوافق حديث عكاشة مع ما أكدته مصادر دبلوماسية مصرية لـ"العربي الجديد"، أمس الثلاثاء، بأنه "ليس من الوارد في الوقت الحالي فتح مفاوضات لترسيم الحدود البحرية مع تركيا" وأنّ الخارجية المصرية أبلغت اليونان بهذا الأمر، وإن كان لن يتم إعلانه رسمياً في مصر، مع الاتفاق على تسويق الأمر من خلال الاتصالات الدبلوماسية ووسائل الإعلام اليونانية لتهدئة الرأي العام هناك.

وفي السياق ذاته، قال مصدر دبلوماسي أوروبي في القاهرة لـ"العربي الجديد"، إنّ "دولاً أوروبية منخرطة أو مهتمة بالأوضاع في شرق المتوسط لأسباب جيوسياسية واقتصادية، منها فرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا، اهتمت بالمستجدات الحاصلة واستفسرت بصورة غير رسمية من مصر عن موقفها من التصريحات التركية، لا سيما أنّ ثلاثاً من بين هذه الدول لها مصالح مباشرة في سوق الطاقة بالمنطقة، من خلال شركات كبرى مملوكة لمستثمريها ولصناديق سيادية بها. وبالتالي، فقد كان من الملحوظ والمرحب به من قبل تلك الدول عدم خرق مصر لأي اتفاق ثنائي سبق وأُبرم بشأن الحدود البحرية في المنطقة، حتى إذا لم تكن راضية عنه". والمقصود هنا اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.

وأضاف المصدر أنّ "الردود المصرية أكدت عدم ظهور أي تطور عملي جديد في الأفق" وأنّ "مشاورات جرت بين مصر وفرنسا تحديداً حول مستقبل العلاقات مع تركيا، بالتزامن مع المناورة البحرية التي اشترك فيها أسطولا البلدين بالبحر الأحمر منذ أيام، وذلك ارتباطاً بعودة الاتصالات الرسمية بين فرنسا وتركيا منتصف الأسبوع الماضي بمباحثات عن بعد، بين الرئيسين إيمانويل ماكرون ورجب طيب أردوغان". وهي المباحثات التي علّق عليها وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان لاحقاً بالقول إنها "إيجابية، وأنّ تركيا توقفت عن إهانتنا ولغتها مطمئنة أكثر، ولكن العلاقات ما زالت هشة".

وأوضح المصدر أنّ "مصر وفرنسا متفقتان على قراءة السلوك التركي باعتباره رغبة في إعادة التموضع في المنطقة، وتقليل حدة الخلافات التي سادت علاقة أنقرة مع البلدين بشأن ليبيا تحديداً، ومع دول أخرى في مضمار التنافس على الطاقة في شرق المتوسط. لكن تلك الرغبة ليست مترجمة حتى الآن إلى خطوات عملية، خصوصاً تجاه القاهرة، التي تطلب بشكل واضح مراجعة مواقف أنقرة من النظام الحاكم والتضييق على معارضي السيسي، وغلق منابرهم الإعلامية".

وذكر المصدر أنّ "تدارس هذه المستجدات بين القاهرة وباريس وأثينا مهم لارتباطها بالتنسيق العسكري والاستخباراتي الذي كان موجهاً ضد تركيا حتى إجراء انتخابات السلطة الانتقالية في ليبيا أخيراً"، مشدداً على أنّ "الخطوات التركية لا تعرقل مفاوضات لإجراء مناورات بحرية جديدة بين الدول الثلاث في المتوسط الصيف المقبل". وفي الصيف الماضي، أجريت مناورات عسكرية تدريبية بين فرنسا وقبرص واليونان وإيطاليا، ومناورات أخرى شاركت فيها مصر وفرنسا واليونان، اعتبرتها تركيا في حينه موجهة ضدها، وبرزت بعض الاحتكاكات الميدانية والإعلامية بين تركيا واليونان تحديداً.

وفعّلت فرنسا اتفاقية دفاع مشترك مع قبرص، وأبرمت اتفاقاً للتعاون العسكري مع اليونان في أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول الماضيين، وقالت إن هذا يأتي تطبيقاً للمادة الخامسة من معاهدة "حلف شمال الأطلسي" التي تنص على مبدأ الدفاع الجماعي ضد الاعتداءات، والمادة الثانية والأربعين من معاهدة تأسيس الاتحاد الأوروبي والتي تنصّ على وجوب تقديم المساعدة بكل الوسائل ضد أي عدوان مسلح على أراضي الدول الأعضاء.

وسبق أن قالت مصادر مصرية وغربية لـ"العربي الجديد"، إنّ السيسي يسعى للدخول طرفاً في مثل تلك المعاهدات مع دول جنوب أوروبا، أو ضمان التعاون والتنسيق بشكل مستمر معها على أقل تقدير. لكن في المقابل هناك تحفظات في أوروبا على تكريس تعاون مستدام مع مصر تحت حكم السيسي، الذي يواجه اتهامات حقوقية عديدة، على الرغم من تطوير التعاون العسكري وصفقات شراء الأسلحة من أكبر دول الاتحاد الأوروبي.

يشار إلى أنّ ما فعلته مصر تحديداً ورحبت به تركيا أخيراً، هو أنها أعلنت مناقصة للبحث عن مكامن المواد الهيدروكربونية في أقصى غرب منطقتها الاقتصادية الخالصة المشكلة بموجب اتفاق ترسيم الحدود مع اليونان، لكنها تلافت دخول المناطق التي أعلنت تركيا في نوفمبر 2019، أنها وقعت بشأنها اتفاقاً مع حكومة الوفاق الليبية، ورفضتها كل من مصر واليونان وقبرص بشدة، وأرسلت شكاوى بشأنها إلى الأمم المتحدة.

وكانت الأمم المتحدة قد سجلت الاتفاق التركي الليبي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ثمّ صادقت رسمياً على خريطة ترسيم الحدود المصرية اليونانية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، مما أبقى الأوضاع جامدة من دون غلبة لأي فريق.

وبحسب مصادر مصرية سبق أن تحدثت لـ"العربي الجديد"، فعلى الرغم من استمرار الخصومة بين تركيا ومصر، والقائمة منذ عزل الرئيس المنتخب الراحل محمد مرسي في يوليو/تموز 2013، فإنّ السيسي لا يريد تعريض نفسه لإحراج إقليمي أو دولي، خصوصاً بعد تسجيل الاتفاقية (التركية الليبية)، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فهو يحافظ على إمكانية إبقاء الباب "موارباً" للمستقبل، حال تغيرت الأوضاع السياسية الثنائية والإقليمية. واعتبرت المصادر أنّ احترام الحدود التركية الليبية هو "خطوة إيجابية لتخفيف وقع الخطوة السلبية السابقة المتمثلة في إبرام اتفاق ترسيم الحدود مع اليونان في أغسطس الماضي".