العدد 1551 /22-2-2023

في مارس/ آذار 2022، تعهد الرئيس الأميركي جو بايدن، بأن تؤدي العقوبات الغربية الصارمة ضد موسكو إلى "خفض حجم الاقتصاد الروسي إلى النصف"، وتوقعت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، بأن تضرب العقوبات نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "في صميم قوته"، فيما قالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، إن عقوبات الاتحاد الأوروبي "تعمل على شل قدرة بوتين على تمويل آلته الحربية".

كذلك توقع معهد التمويل الدولي انكماشاً بنسبة 15% في الناتج المحلي الإجمالي الروسي في 2022. ورجح بنك الاستثمار الأميركي "جيه بي مورغان" انكماشاً بنسبة 12%.

لكن الواقع يبدو مختلفاً إلى حد ما، الأمر الذي يعكس وفق محللين "ثقة مفرطة ومتعجرفة من جانب الغرب بشأن السرعة التي يمكن للعقوبات التي جرى الاتفاق عليها بالتنسيق غير المسبوق مع مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى أن تلحق الضرر بروسيا".

فرغم أن هناك خسائر حقيقية لحقت بروسيا جراء العقوبات واستمرار الحرب، إلا أن الثمن على الجانب الآخر كان باهظاً سواء في صفوف الاتحاد الأوروبي أو أوكرانيا التي تدور المعركة على أرضها، والتي تسببت في دمار هائل وشلل للاقتصاد، حيث تقدر خسائر البنية التحتية وحدها بنحو 127مليار دولار، بينما لا يملك الغرب بيانات دقيقة حول حجم الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الروسي مبررين ذلك بإصدار الكرملين "بيانات مضللة".

حين تغزو دولة كبيرة أخرى أفقر وأصغر، يعادل ناتجها المحلي الإجمالي تُسع حجم الدولة الغازية وعدد سكانها يعادل الربع، يُتوقع منطقياً أن تتمكن المعتدية من التعامل مع الضغوط الاقتصادية الناجمة عن ذلك، فيما يحيق بضحيتها دمار كارثي.

ويمكن إيجاز التداعيات الاقتصادية بعد عام من الغزو الروسي بأن معظم اقتصاد أوكرانيا دُمر وأن ملايين الناجين من المعارك يعيشون في البرد والظلام، بينما ما تزال الحياة في روسيا رغيدة بعض الشيء لغير المجندين الذين يقاتلون على الخطوط الأمامية.

لكنه بات جلياً، مع دخول الحرب عامها الثاني، أن تكلفتها ستكون باهظة على نحو لا يمكن لأي من طرفي الصراع تحمله، بل إنها لن تسفر عن نتيجة مقبولة بالنسبة لأي منهما. فكلما طال أمد المعركة، تضخمت خسائرهما الاقتصادية.

وبالطبع شلت الحرب أوكرانيا، ولا يُعرف كم سيستغرق تعافي ثاني أكبر دول أوروبا مساحة، حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 30% في 2022، وارتفع التضخم رسمياً إلى 20%، فيما يرجح تجاوزه حاجز 30% في الحقيقة. وكان للتضخم أكبر الأثر على حياة الأوكرانيين الأفقر، وذلك رغم المساعدات الخارجية التي ساهمت في سد عجز ميزانية العام الماضي، الذي بلغ 27% من الناتج المحلي الإجمالي.

على سبيل المثال، ارتفعت أسعار الخضراوات 85% مع تحول خيرسون، أكبر منتج للخضراوات في البلاد، إلى ساحة لقتال عنيف، وتراجعت العملة هيرفينيا بشكل حاد واقترب معدل البطالة من 40%، وفق مركز الدراسات الشرقية في وارسو، فيما خففت عوامل مثل الهجرة القسرية لملايين الأوكرانيين معظمهم من النساء والأطفال، والتعبئة العامة للرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و60 عاماً الضغوط الاجتماعية.

أوقعت الحرب خسائر ضخمة بأهم قطاعات الاقتصاد الأوكراني، خاصة الصناعات الثقيلة التي تتركز في شرق وجنوب البلاد، حيث حققت روسيا أكبر تقدمها وألحقت بالغ الضرر بتلك المناطق. وقدّر مسح من كلية كييف للاقتصاد في سبتمبر/أيلول الماضي حول خسائر البنية التحتية أن الأضرار التي لحقت بالطرق والجسور والمنازل والمدارس والمستشفيات والأراضي الصالحة للزراعة بلغت 127 مليار دولار.

كما قدرت كلية كييف للاقتصاد، وفق وكالة بلومبيرغ الأميركية، الأضرار الجسيمة التي لحقت بالأصول المادية للشركات الأوكرانية وحدها بنحو 13 مليار دولار، في حين تتجاوز الأضرار غير المباشرة مثل خسارة الأسواق أو قنوات التوزيع 33 مليار دولار. وكانت الزراعة أقوى في مناطق الجنوب الخصب التي شهدت معارك عنيفة، فانخفض محصول القمح من 32.5 مليون طن في 2021 إلى 26.6 مليون طن العام الماضي، وقد ذهب ربع ذلك الإنتاج إلى "المحتلين الروس".

التداعيات الاقتصادية في روسيا

لكن ماذا عن التداعيات الاقتصادية للحرب في روسيا؟ لقد انكمش الاقتصاد الروسي بنسبة 2.1% العام الماضي، حيث ساعد ارتفاع صادرات السلع الأساسية في تعويض تأثير العقوبات الأميركية والأوروبية.

جاءت البيانات الأولية، الصادرة عن دائرة الإحصاء الفيدرالية الروسية، يوم الاثنين الماضي، أفضل من توقعات المسؤولين الذين رجحوا انخفاضاً نسبته 3% في أوائل الخريف، وأقل بكثير من توقعات من تنبأوا بتراجعه 10% عندما فرضت العقوبات لأول مرة قبل أكثر من عام تقريباً.

وبحسب دائرة الإحصاء الفيدرالية، فإن الأكثر تضرراً كانت تجارة الجملة والتجزئة، إضافة إلى التصنيع والنقل، بينما نما الإنفاق الحكومي على التعدين والزراعة والبناء خلال العام الماضي.

وتمكنت روسيا من إبقاء عجز ميزانية العام الماضي في مستوى معقول بلغ 2% من الناتج المحلي الإجمالي، رغم القيود المفروضة على إصدار أدوات الدين الخارجي بسبب العقوبات الغربية. وانخفض معدل البطالة الرسمي إلى 4% مقابل 4.8% في 2021.

غير أن محللين غربيين ومعارضين روس يقولون إن هذه الأرقام مضللة، ليس فقط بسبب احتمال أن ترسم الإحصاءات الرسمية صورة وردية جداً، وإنما أيضا لأن الكرملين يسعى لإثبات منعته وقدرته على المقاومة والاعتماد على الذات في مواجهة العقوبات الغربية.

قال فلاديمير ميلوف، نائب وزير الطاقة الروسي السابق الذي أصبح الآن سياسيا معارضا بارزا في المنفى، وفق صحيفة الغارديان البريطانية: "قد يكون من المفيد تتبع عشرات المؤشرات مثل مبيعات الكحول، ومعدلات الطلاق، والسرقة، والإنفاق على الطعام أو معنويات عملاء البنوك أو عائدات الضرائب" لمدى معرفة تأثير العقوبات. وأضاف ميلوف: "لا تنظر إلى الساعة كل خمس دقائق لترى ما إذا كانت العقوبات تؤتي ثمارها. تحلَّ بالصبر الاستراتيجي".

كما قالت أجاثا دمريس، مديرة التنبؤ العالمي في وحدة المعلومات الاقتصادية في فورين بوليسي، ومؤلفة كتاب Backfire إن "تمويل الحرب (من جانب روسيا) يزداد صعوبة". لكن تشارلز ليتشفيلد، نائب مدير المجلس الأطلسي، وهو مركز أبحاث أميركي قال: "يبدو أن الغرب قد انجرف في البداية إلى توقعات خاطئة بحدوث انقلاب في القصر" بفعل العقوبات.

وتبدو خسائر روسيا الاقتصادية ضئيلة مقارنة بما كان يتوقعه الغرب، فرغم أن العقوبات التي تواجهها روسيا غير مسبوقة من حيث النطاق، إلا أنها فُرضت تدريجياً ما أعطى فسحة للروس للتصدي لها والالتفاف عليها، وفق محللين.

قال نيكولاس مولدر، أستاذ التاريخ المساعد في جامعة كورنيل ومؤلف كتاب " السلاح الاقتصادي: صعود العقوبات كأداة للحرب الحديثة" في تصريحات لمجلة فورين بوليسي الأميركية، إن مكانة روسيا كمصدر كبير للسلع الأساسية منحها قدراً معيناً من النفوذ على البلدان الأخرى. كانت لديها تجارة أكثر مما توقعنا، ووجدت قنوات خلفية لتلك التجارة. هذه الأشياء مجتمعة تفسر الكثير من الأسباب التي جعلت العقوبات تعمل بكفاءة أقل مما كان متوقعاً".

وخلال العام الماضي، شنت الولايات المتحدة وحلفائها عقوبات ديناميكية ومتصاعدة لإيذاء الرئيس الروسي وحلفائه. لكن لم تمنع هذه التحركات بوتين من شن حرب في أوكرانيا، على النقيض مما كان يصبو إليه حلف العقوبات، توقع صندوق النقد الدولي أخيراً أن ينمو الاقتصاد الروسي بنسبة 0.3% خلال العام الجاري 2023، بينما تشهد دولة مثل المملكة المتحدة انكماشاً، ما يدعو إلى التساؤل "هل هذا يعني أن العقوبات لم تنجح؟" بحسب فورين بوليسي.

حاول الغرب في 28 فبراير/شباط، نصب كمين لروسيا، وفق وصف صحيفة الغارديان البريطانية، وذلك عن طريق تجميد حوالي 300 مليار دولار أو 40% من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي الموجودة في الخارج، وكان الهدف هو زيادة صعوبة الدفاع عن العملة الروسية، وزيادة تكلفة تمويل الحرب وقفزات في معدل التضخم. لكن محافظة البنك المركزي الروسي، إلفيرا نابيولينا، تحركت بشكل حاسم، حيث رفع "المركزي" سعر الفائدة الرئيسي إلى 20% في 28 فبراير/شباط، ما جعل الودائع جذابة للغاية وحال دون إصابة المواطنين بالذعر الذين كانوا يرغبون في سحب أموالهم من حساباتهم المصرفية.

بمجرد صد الحرب المالية الخاطفة الأولية، التي جرى إعدادها سراً في وزارة الخزانة الأميركية في الأشهر التي سبقت الحرب، وفق "الغارديان"، كان على الغرب مراجعة استراتيجيته، وقبوله ضمنياً أن عليه تسلق المزيد من درجات السلم لفرض المزيد من العقوبات. بينما في كل مرحلة تلتف روسيا على العقوبات وتجد أبواباً خلفية بالنسبة لصادرات النفط والغاز الحيوية.

المرونة المفاجئة للاقتصاد الروسي لا ترجع في المقام الأول إلى الاحتراف الفني لمسؤولي البنك المركزي أو خرق العقوبات الغامضة، بل إلى وجود عيب هيكلي واضح في العقوبات. وبحسب أوليغ إيتسخوكي، الاقتصادي الروسي الأميركي فإن "عدم فرض حظر على الصادرات الروسية في وقت مبكر أدى إلى تسجيل فوائض تجارية ومالية عالية، الأمر الذي منح نظام بوتين وسادة مالية ضخمة، بما يكفي لتحمل عدة أشهر من الحرب.

وحمل صيف عام 2022 ثروة هائلة للخزانة الروسية، حيث استفادت من الارتفاع القياسي في أسعار الطاقة. وفي مارس/آذار كانت روسيا تجني مليار يورو في اليوم من صادرات الطاقة. وزاد النفط والغاز إلى 60% من الإيرادات المالية الروسية ارتفاعا من 40%.

وبلغ الفائض في الحساب الجاري لروسيا العام الماضي 227.4 مليار دولار، بزيادة قدرها 86% عن العام السابق. وساعد ذلك على تعزيز الروبل، مما جعل الواردات أرخص. وقد ساعد هذا بدوره على خفض التضخم تدريجياً، ما أدى إلى تخفيف بعض الضغط عن الدخل الحقيقي لسكان روسيا.

وتبدو حرب العقوبات الدولية، بمثابة لعبة القط والفأر، حيث يبحث الطرفان عن أدلة وسط المعلومات المضللة لمحاولة استباق تحركات الطرف الآخر. وفي نهاية المطاف، ليس الأمر حاسماً مثل ساحة المعركة، ولكن إذا تمكن الغرب من الاستمرار في المسار، فقد يجد بوتين بعد أن خياراته تضيق. لكن إذا نجا، فسيكون ذلك بمثابة ضربة كبيرة لقوة الدولار، وهي ضربة لن تمر مرور الكرام في بكين، وفق صحيفة الغارديان.