العدد 1546 /18-1-2023

د. سعيد الحاج

قبل أيام، عقدت "الطاولة السداسية" التي تضم ستة أحزاب تركية معارضة تريد العودة للنظام البرلماني؛ اجتماعها التنسيقي العاشر قبل أشهر قليلة فقط من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في تركيا، والتي يبدو أنها ستُقدَّم عن موعدها قليلاً كذلك.

ورغم مطالبات تحالف الجمهور وتوقعات الناخبين، إلا أن الأحزاب الستة لم تناقش بعمق مسألة مرشحها للانتخابات الرئاسية فيما يبدو، إذ ركزت على المرحلة الانتقالية والبرنامج الحكومي (في حال فوزها)، بينما كان كل ما توصلت له في الاجتماع بخصوص مسألة الترشيح، وفق البيان الصادر عنها، "الاتفاق على بدء المشاورات لاختيار مرشح توافقي للانتخابات الرئاسية".

ورغم أن موعد الانتخابات قريب، وقد يعلن الرئيس التركي تبكير الانتخابات في أي لحظة؛ بما يبقي أمام المعارضة زهاء ستين يوماً فقط حتى يوم الانتخابات (وفق الدستور) لتختار المرشح وتدير حملته الانتخابية وتقنع الناخبين به أمام مرشح قوي ومتمرس مثل أردوغان، إلا أن ذلك -وعلى عكس التوقعات- لم يكن أكثر ما شغل الرأي العام بعد الاجتماع.

إذ كان ما أثار الجدل بين النخب السياسية والإعلامية والمواطنين تصريحات رئيس حزب المستقبل أحمد داود أوغلو، الذي استضاف الاجتماع الأخير، والتي قال فيها إن المرشح التوافقي للطاولة السداسية لن يتفرد بالحكم في حال فوزه، وإنما سيعود لرؤساء الأحزاب الستة في القرارات الاستراتيجية والتعيينات المهمة في الدولة.

وبعيداً عن مدى قدرة الطاولة السداسية على تقديم مرشح توافقي، وفرصه في الفوز، ودستورية طرح داود أوغلو، إلا أن ما قاله الأخير يبيّن بشكل واضح المعضلة الكبرى التي تواجه الطاولة السداسية المعارضة التي تنافس أردوغان، وهي معضلة مركبة من شقّين متلازمين:

الشق الأول أنها تدعو للعودة بالبلاد للنظام البرلماني وتعد به وتسعى له، ولكنها تدخل لأجل ذلك الانتخابات وفق النظام الرئاسي. والنظامان متباينان من حيث صلاحيات الرئيس حد التناقض، فهو في النظام الرئاسي يملك صلاحيات واسعة وشبه مطلقة (وفق النظام المطبق حالياً في البلاد)، بينما هو في النظام البرلماني أقرب لرئيس فخري.

ولذلك ثمة هواجس لدى بعض فرقاء الطاولة السداسية حول شخصية المرشح الذي ينبغي تقديمه، إذ يفترض وفق النظام البرلماني الذي يسعون إليه أن يكون شخصية ضعيفة وغير طموحة وربما غير سياسية، بل أقرب للتنسيق بين أحزاب المعارضة، بينما ستكون وفق النظام الرئاسي الذي يحتكمون إليه شخصية ذات صلاحيات واسعة جداً.

الشق الثاني لمعضلة المعارضة والمرتبطة بشكل كبير بالشق الأول هو ضعف الثقة فيما بينها، ذلك أنه إلى جانب الخلفيات التاريخية والسياسية والأيديولوجية التي تضع بعضها في موقع الخصم من البعض الآخر، فإن هناك ضعفاً في موثوقية ما بعد الانتخابات. فلا أحد يضمن كيف سيتصرف الرئيس المقبل -كائناً من كان- وهو يملك كل تلك الصلاحيات، كما أن أحداً لا يضمن بقاء الطاولة السداسية نفسها.

وهذا السبب الرئيس برأيي لرفض بعض رؤساء الأحزاب المنضوية تحت "الطاولة السداسية" ترشيح رئيس حزب الشعب الجمهوري -أكبر أحزاب المعارضة- كمال كليتشدار أوغلو للرئاسيات كمرشح توافقي للطاولة، إذ هناك تحوف حقيقي من أن تكون الطاولة السداسية مجرد قنطرة احتاجها الأخير للوصول للقصر الرئاسي، وبعدها لا ضمانات أكيدة لبقاء الإطار التنسيقي مع باقي الأحزاب، بل لا ضمانات بأن يبقى على رأيه بالسعي للنظام البرلماني مرة أخرى، من باب إدراك مدى صعوبة تنازل أي سياسي عن الصلاحيات والحكم.

ولذلك، فقد كانت تصريحات داود أوغلو، وبغض النظر عن مدى القدرة على تطبيقها لاحقاً، من جهة؛ إشارة ضمنية لرغبة هذه الأحزاب في الحصول بشكل مسبق على وعود بأدوار معينة والبقاء في دوائر صنع القرار في مرحلة ما بعد الانتخابات في حال فاز مرشح المعارضة، ومن جهة ثانية، فهي محاولة من الأحزاب الصغيرة المشكّلة حديثاً لإقناع أنصارها بأنها لم تُستغل من قبل الأحزاب التقليدية الكبيرة للفوز فقط، وإنما هي حاضرة في المشهد السياسي بقوة، وكذلك لضمان تصويتها لمرشح المعارضة حتى لو كان على غير هوى أنصارها كما هو متوقع.

ولذلك قد تسعى هذه الأحزاب للحصول على وعود بأمور إضافية، مثل مناصب وزارية أو نوّاب للرئيس أو غير ذلك، بما يبقيهم في دائرة الحكم والقرار، بغض النظر عن اسم مرشح المعارضة.

لكن تصريحات داود أوغلو قدمت رسالة عكسية، وأضرّت حتى لحظة كتابة هذه السطور بأحزاب المعارضة أكثر مما أفادتها، ودفعتها لمحاولة تفسير الأمر أو إعادة صياغته، وبعضَها للتنصل منه. ذلك أن الثقافة السياسية في تركيا وخصوصاً في الحقبة الأخيرة تبحث عن رئيس قوي وصاحب كاريزما وعن فكرة القوة والإرادة، بينما تقول الطاولة السداسية إن الرئيس المقبل لن يتخذ القرارات المهمة دون الرجوع إليها.

أكثر من ذلك، تدرك هذه الأحزاب أن أي اتفاق ستعقده مع المرشح المحتمل للانتخابات الرئاسية بخصوص هذا الأمر؛ ليست دستورية ولا تلزمه بعد صدور نتائج الانتخابات التي سيكون بعدها رئيساً واسع الصلاحيات إن فاز، وأنها أقرب لالتزام أدبي رمزي لا إلزام دستوريا فيه. ولذلك، وبالنظر لكل ما سبق، سيكون هذا التوجه ورقة قوية في يد الرئيس التركي ليواجه بها الطاولة السداسية وأحزابها، من باب أنهم يريدون "رئيساً دمية" ومنزوع الصلاحيات "ليحكموا هم".