العدد 1538 /23-11-2022

حسين عبد العزيز

كشفت الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة مدى التراجع الحاد للأحزاب اليسارية، بعد حصول حزب العمل على أربعة مقاعد، مقابل حصوله على سبعة مقاعد في الكنيست السابقة، وعدم حصول حزب "ميرتس" على أي مقعد، بعدما شغل في الكنيست السابقة ستة مقاعد. ليست أزمة اليسار الإسرائيلي طارئة، بل تعود لعقود عديدة، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي.

ومنذ ذلك التاريخ والفكر السياسي العالمي يشهد انزياحا نحو اليمين، فالاشتراكية تحولت نحو المحافظة حين قبلت ما كانت ترفضه سابقا (دولة الرفاه الاجتماعي) والمحافظة أصبحت يمينا حين قبلت أيضا ما كانت ترفضه سابقا (الرأسمالية التنافسية)، واليمين التقليدي تحول إلى يمين راديكالي (الليبرالية الجديدة) بعد الانقلاب التاريخي على دولة الرفاه الكينزية.

اللبرلة الاقتصادية

وعلى أهمية هذه العوامل وما أدته من دور مهم في ترسيخ اللبرلة في الحياة الاقتصادية الإسرائيلية، لم يكن لها التأثير نفسه الذي أحدثته في القارة الأوروبية، فإسرائيل تفتقر إلى تلك البنى الاجتماعية ـ الاقتصادية التقليدية التي ميزت التاريخ الأوروبي (الإقطاع، النبالة) لكونها دولة حديثة لم تقم من رحم تحولات اجتماعية سياسية اقتصادية، بل قامت كدولة استعمارية استيطانية، شكلت الأرض العنصر الرئيسي في عملية البناء الاقتصادي، ولهذا كان اقتصادها قائما على الاقتصاد الزراعي ـ الاستيطاني.

بدأت أزمة اليسار الإسرائيلي سياسيا عام 1977 حين صعد اليمين للمرة الأولى إلى سدة الحكم، لكن جذور هذه الأزمة بدأت بعد عام 1967 حين بدأ الاقتصاد الإسرائيلي بالاندماج في الاقتصاد العالمي، والخطوة الأولى لعملية العبور هذه كانت تتطلب تجاوز اقتصاد اليشوف الاستيطاني أولا عبر عمليات الخصخصة وتوسيع باب الاقتصاد الإسرائيلي وفتحه على مصراعيه لتوطيد بنى صناعية وتجارية لها علاقة مباشرة باقتصاد السوق الرأسمالي.

مع بدء عقد التسعينيات من القرن المنصرم ظهرت مرحلة سياسية جديدة نتيجة دخول إسرائيل العملية السلمية مع العرب، بحيث أصبح من الصعب بعد مدريد تحديد الألوان السياسية والحزبية، فالأجندة الإيديولوجية لمفهوم أرض إسرائيل ودولتها ومن ثم الدولة الفلسطينية المقبلة تراجعت عما سبق، ومع ارتفاع مستوى المعيشة وتوسع الطبقة الوسطى بدأ تمييز الحزب عن الدولة، إذ لم يعد الحزب (العمل) الممثل الوحيد للقواعد الاجتماعية والاقتصادية، وكان من نتيجة فك الارتباط الاقتصادي بين الحزب والدولة هزيمة اليسار سياسياً عام 1977.

واستمرت العملية بتقليص دور الدولة والهستدروت في الاقتصاد، الأمر الذي أدى إلى نشوء فئات سياسية تجمع بين اليمين الاجتماعي الاقتصادي والسياسي إلى جانب فئات سياسية تؤيد توسيع اقتصاد السوق.

لقد أدى تغير قوى الإنتاج ووسائله بنتيجة تغير نمط الإنتاج من النمط الزراعي إلى النمط الصناعي، إلى تغير في النخب السياسية لمصلحة تلك الفئات الجديدة المرتبطة صناعيا وتجاريا باقتصاد السوق العالمي، ذلك التبدل الذي نظر إليه اليساريون على أنه تعبير عن القانون الماركسي الذي لا يعتبر التاريخ إلا نتيجة عملية ديالكتيكية بين القوى الاقتصادية (البنية التحتية) والنظام الاجتماعي السياسي (البنية الفوقية)، أي إن نمط الإنتاج يحدد في النهاية بنية العلاقات السياسية الفوقية.

هذه التغيرات الاقتصادية أدت إلى تقارب كبير بين اليمين واليسار ولا سيما عند الحزبين الكبيرين العمل والليكود اللذين أصبحا يتقاسمان التمثيل السياسي للطبقة الوسطى الكبيرة، فالتلاقي الحاصل في المبنى التحتي أدى إلى تلاق من نوع آخر في المبنى الفوقي، ولم يعد عندها الاقتصاد يدخل في دائرة التحديد الجوهري لماهية اليسار واليمين.

أيديولوجيا السلام

على المستوى الديني ـ السياسي، أدت حرب عام 1967 إلى إنهاء التناقض بين الصهيونية من جهة والتيارات الدينية المتشددة من جهة أخرى، فقبل هذا العام كان المواقف الدينية من الصهيونية تنبع من الفارق بين دولة إسرائيل وأرض إسرائيل كما هي في التوراة، لكن حرب الـ 67 أدت لأول مرة في التاريخ إلى حدوث تطابق بين دولة إسرائيل وأرض إسرائيل يقول بشارة.

هنا، حدث انزياح علماني نحو الدين، قابله حدوث انزياح ديني نحو القومية باعتبارها فكرة علمانية، وبذلك جرت عملية صهينة الخطاب السياسي لدى غلاة المتدينيين (الحريديم)، قابله تدين الخطاب السياسي اليميني العلماني فيما يتعلق بقضايا أرض إسرائيل.

كان من شأن التلاقي بين الصهيونية والتيارات الدينية، نشوء مناخ يميني في إسرائيل، أجبر الأحزاب اليسارية، وفي مقدمهما حزب العمل إلى تشديد مقولاته، خصوصا حيال العلاقة مع الفلسطينيين.

مع بدء عقد التسعينيات من القرن المنصرم ظهرت مرحلة سياسية جديدة نتيجة دخول إسرائيل العملية السلمية مع العرب، بحيث أصبح من الصعب بعد مدريد تحديد الألوان السياسية والحزبية، فالأجندة الإيديولوجية لمفهوم أرض إسرائيل ودولتها ومن ثم الدولة الفلسطينية المقبلة تراجعت عما سبق، وقد بدأ هذا التغيير في اليمين الصهيوني الذي كان يرفض فكرة الدولة الفلسطينية ثم قبل بها على أساس كيان سياسي ثم دولة منقوصة، ثم دولة مقطعة منزوعة السيادة.

كان من شأن التلاقي بين الصهيونية والتيارات الدينية، نشوء مناخ يميني في إسرائيل، أجبر الأحزاب اليسارية، وفي مقدمهما حزب العمل إلى تشديد مقولاته، خصوصا حيال العلاقة مع الفلسطينيين.

والحقيقة أن موقف اليسار يتماهى مع موقف اليمين حيال هذه القضايا باستثناء بعض النقاط التي ليس لها أي أهمية سياسية أو جغرافية، فكلا الطرفين يؤكد أنه لا يوجد حل للقضية الفلسطينية وفق ما يطرحه الفلسطينيون والعرب، وأن الحل الوحيد هو الحل الدائم وفق الرؤية الإسرائيلية التي تؤكد ضرورة الانفصال عن الفلسطينيين لحل المسألة الديمغرافية وحفاظ إسرائيل بالتالي على هويتها وديموقراطيتها في آن واحد، وكلاهما متفق على الأراضي التي يجب على إسرائيل الإبقاء عليها تحت سيادتها.

هذه العوامل السياسية والاقتصادية، يضاف إليها هشاشة الانتماءات السياسية من جهة، وتقاسم اليسار واليمين التقليدي للوسط السياسي من جهة ثانية، سهل عملية الانتقال بينهما.