العدد 1545 /11-1-2023

بقلم : ياسين أقطاي

عند إجراء تغييرات سياسية رئيسية في العلاقات الدولية، ليس من الممكن تجنب حالة الغضب التي تنجم عن تدهور العلاقات بين طرفين بعد مرحلة طويلة من ازدهارها الذي أصبح روتينيًا. ففي الملف السوري، الذي لا يزال يعاني من آلام وجروح ما زالت تنزف. وبالطبع فإن مبادرة تركيا السياسية كانت مفاجأةً بالنسبة لجميع الأطراف. ومع ذلك فمجرد محاولة الحديث عن قضية مستمرة منذ 12 عامًا وليس فيها بوادر للحلول، تتطلب الكثير من الشجاعة .

يمكننا أن نستنتج بوضوح من خلال التطورات أن تركيا هي التي اتخذت هذه المبادرة ولم تكن هناك نية لتغيير الوضع من قبل سوريا وروسيا وإيران والولايات المتحدة الأمريكية. ولكن الولايات المتحدة الأمريكية أعربت عن عدم رضاها إزاء المبادرة التركية.

وقال الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، في رده على سؤال حول الاجتماع الثلاثي في العاصمة الروسية موسكو، والذي ضم وزراء دفاع ورؤساء أجهزة الاستخبارات التركية والروسية والسورية: "كل ما يمكنني قوله هو أن سياستنا لم تتغير، وواشنطن لا تدعم "الدول التي تعزّز علاقاتها أو تعرب عن دعمها لإعادة الاعتبار لبشار الأسد الدكتاتور الوحشي، كما ندعو الدول إلى الأخذ بعين الاعتبار سجل انتهاكات حقوق الإنسان المروّع لنظام الأسد على مدار 12 عاما في الوقت الذي يواصل فيه ارتكاب المزيد من الفظائع بحق الشعب السوري، ويمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى محتاجيها في المناطق الخارجة عن سيطرة قواته. كما تحدث عن النفاق في السياسة السورية.

في كل فرصة تستشهد واشنطن بالعبارات التالية: (الدكتاتور الوحشي، 12 عامًا من سجل حقوق الإنسان "المروّع" لنظام الأسد، معاناة الشعب السوري). ولكنها لم تفعل شيئًا لتغيير الوضع في سوريا بشكل حقيقي على مدار 12 عامًا، فقد أصبحت واشنطن شريكة في سجل انتهاكات حقوق الإنسان مع هذا الدكتاتور الوحشي من خلال دعمها المنظمات الإرهابية، حيث جعلت المهمة أكثر تعقيدًا، ووقفت ضد محاولات تغيير هذا الوضع، وهذا أهم سبب لاستمرار الأزمة السورية حتى الآن. والولايات المتحدة الأمريكية ليست وحيدة في إعاقة إيجاد الحل، إذ إنه لم تصدر أية خطوة لإيجاد حل من قبل روسيا أو إيران أو حتى النظام السوري. ولاشك أن محاولة إيجاد حل لللأزمة السورية يزعج هذه الأطراف. ولم يكن عبثيًا طرح مفاهيم من قبيل "فوضى خلاقة، فوضى إنتاجية، فوضى مربحة" في الحديث عن الأزمة السورية. وتعد مراكز التفكير الاستراتيجي الأمريكية مصدر هذه المفاهيم التي تم طرحها لاقتراح نموذج سياسي على مزاج الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تتناسب هذه المفاهيم مع واقع كل هذه الأطراف الفاعلة.

يحقق الوضع الحالي الكثير من المكاسب السياسية لجميع الأطراف الفاعلة. فكلها تتطلع إلى الاستفادة من استمرار الأزمة، ولذلك فإن المواقف الداعية لإيجاد حلول تزعج كل تلك الأطراف. الشعب السوري لا يريد استمرار هذا الوضع الذي جلب له الويلات، وكذلك تركيا لا تريد استمراره لأن لديها حدودًا بطول 900 كم مع سوريا، فضلًا عن وجود موجة من اللاجئين قادمة إليها وتتلقى خطر التهديدات الإرهابية وعدم الاستقرار. ومع ذلك فقد أظهرت تركيا الشجاعة للقيام بمحاولة إحداث تغيير في الأزمة السورية عبر انتهاج سياسة جديدة. ولكننا نُفاجأ بادعاءات البعض من الذين يحاولون تصوير هذه المبادرة على أنها استسلام وتراجع في سياسة تركيا تجاه سوريا. علمًا أن تركيا اتخذت مواقف أخلاقية يستدعيها الوضع السوري منذ بداية الأزمة المستمرة منذ 12 عامًا. وأثناء إعادة استعراض شريط الأحداث كانت هناك تطورات لا يمكن رؤيتها بطريقة أخرى. ولا داعي اليوم لاستنباط أحكام مجحفة من خلال هذا التقارب.

فعلى سبيل المثال، من غير المنطقي الاعتقاد بأن المبادرة التركية تهدف إلى التعاون مع النظام السوري ضد تنظيم بي كي كي/واي بي جي الإرهابي، لأن هذا التنظيم الإرهابي ليس هيكلًا خاضعًا لسيطرة النظام السوري. كما أنه لا يُتوقع من النظام السوري أن يخوض معركة فعالة ضد هذه التنظيمات الإرهابية أو أن يتعاون مع تركيا بناءً على طلبها. لو كان لدى النظام القدرة على محاربة تنظيم بي كي كي الإرهابي لكان الوضع في سوريا مختلفًا كثيرًا. وفي الوقت الحاضر، الأراضي السورية محتلة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، والنظام السوري ليس لديه القدرة على تنفيذ عملية في هذه الأراضي. لذلك، قد لا يكون النظام السوري طرفا في أي مفاوضات ضد التهديد الإرهابي لتركيا، فالطرف هنا هو الولايات المتحدة الأمريكية، وربما روسيا أيضًا. في غضون ذلك، تركيا هي الطرف الوحيد الذي يمكنه ضمان وحدة الأراضي السورية على المدى البعيد. وسيكون من الأنسب للنظام السوري، الذي يعبر عن حساسية مفرطة تجاه وحدة أراضيه، أن يقلق من احتلال الولايات المتحدة وتنظيم بي كي كي الإرهابي لبلده.

ومن خلال المحادثات المباشرة مع سوريا، ليس من الضروري توقع إيجاد حل على المدى القريب فيما يتعلق بعودة اللاجئين السوريين. بغض النظر عن نوع الضمانات المقدمة من قبل الأسد. ولا يمكن لتركيا ولا لأي دولة أن تطالب اللاجئين السوريين بأن يثقوا بالأسد، الذي كان موقفه الوحيد تجاه المعارضة على مدار 12 عامًا عبارة عن مجازر عديدة.ولا يمكن لروسيا ولا لإيران منح الثقة والضمانات التي ستمنح للاجئين الذين يريدون العودة إلى قاتليهم. فالجهات الفاعلة الأخرى في ارتكاب المجازر هي أيضا شريكة في المجازر التي ارتُكبت بحق المدنيين. فهل يُعقل أصلًا أن تكون هناك ضمانات بأن مرتكبي المجازر لن يكرروا مجازرهم مرة أخرى؟

ولكن قد تكون تركيا هي الطرف الوحيد الذي يمكنه منح ضمان التعاون من أجل العودة ، كما أن المنطقة الآمنة التي سيتم تنفيذها والاعتراف بمناطق الحماية والسيطرة التركية داخل سوريا قد تحفز السوريين على العودة طواعية. وكما قال مختار الشنقيطي على موقع الجزيرة نت: "إن توسيع المنطقة الآمنة التي تسيطر عليها تركيا داخل سوريا لتشمل حلب قد يكون حلاً جيدًا حتى تنتهي الأزمة السورية". وبالنظر إلى حلب نجد أنها أكبر محافظة سورية خرج منها لاجئون إلى تركيا، فقد تكون هذه القضية الأهم في المفاوضات والأكثر منطقية لصالح جميع الأطراف من أجل إيجاد حل.