العدد 1538 /23-11-2022

بقلم : جاسم الشمري

اهتمّت الشرائع السماويّة والقوانين الأرضيّة بالإنسان اهتماما واضحا وكبيرا، وسعت للحفاظ على حياته وكرامته وحقوقه الإنسانيّة والماليّة والفكريّة والأخلاقيّة.

وتلتزم الأنظمة السياسيّة المُعتبرة بصيانة النفس الإنسانيّة وحراسة كرامتها وحقوقها، ولهذا لا يُمكن القبول بأيّ فعل يُمكن أن يَسحق الإنسان، أو يُهين كرامته، أو يَهضم حقوقه. ولكم أن تَتخيّلوا كيف تكون المأساة والشعور حينما يتعلّق الأمر بتغييب الإنسان وتضييع أثره وخبره، وهذه من أخطر الجرائم الأمنيّة والحقوقيّة والسياديّة لأيّ دولة تَحترم كيانها!

ولا يُمكن القفز على ملفّ المُغيبين العراقيّين منذ العام 2003 وحتّى الآن، لأنّه من الملفّات العالقة والشائكة، ولم تَحسمه أيّ حكومة أو منظّمة إنسانيّة، وبالذات ونحن نتحدّث عن إرهاب رسميّ سَاهَم مُباشرة في جرائم التغييب، وبسلوك غير مباشر عبر تجاهل وجودها والتغليس عن مُرتكبيها، وبالمحصّلة وقوع ثقل هذه المعضلات على الجوانب السياسيّة والإنسانيّة والمجتمعيّة!

لا يُمكن القفز على ملفّ المُغيبين العراقيّين منذ العام 2003 وحتّى الآن، لأنّه من الملفّات العالقة والشائكة، ولم تَحسمه أيّ حكومة أو منظّمة إنسانيّة، وبالذات ونحن نتحدّث عن إرهاب رسميّ سَاهَم مُباشرة في جرائم التغييب

ويُقصد بالاعتقال القسريّ وفقا لإعلان حماية جميع الأشخاص الذي اعتمدته الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة بقرارها المرقم (133/47) والمؤرّخ 18 كانون الأوّل 1992: "الاعتقال، أو الاحتجاز، أو الاختطاف، أو الحرمان من الحرّيّة يتمّ على أيدي موظّفي الدولة، أو أشخاص يتصرّفون بإذن، أو دعم من الدولة، أو بموافقتها".

والغريب أنّ العراق انضمّ في 23 تشرين الثاني 2010 للاتّفاقيّة الدوليّة للحمایة من الاختفاء القسريّ، ومع ذلك فهو من البلدان المُتقدّمة في هذا الملفّ المخيف وفقا للجنة الصليب الأحمر الدوليّ!

وتزور العراق للفترة من 12 إلى 24 تشرين الثاني الحاليّ لجنة الأمم المتّحدة المعنية بحالات الاختفاء القسريّ لتحديد آليات مُعالجة الاختفاء، وستشمل زيارتهم محافظات بغداد والأنبار والموصل وغيرها للقاء ذوي الضحايا، ومنظّمات المجتمع المدنيّ والمؤسّسات الحقوقيّة المختصّة.

وسيحضر خبراء اللجنة الدوليّة عمليّات استخراج الجثث من قبل السلطات، وستشمل زيارتهم السجون ومراكز الاحتجاز لفحص كيفيّة عمل أنظمة التسجيل فيها والتي تُعتبر وسيلة أساسيّة لمنع الاختفاء القسريّ.

وبموجب تقديرات اللجنة الدوليّة للمفقودين التي تعمل بالشراكة مع حكومات العراق فإنّ عدد المُغيبين قد يتراوح بين 250 ألفا إلى مليون شخص للفترة من 2016 إلى 2020!

والحقيقة لا أحد يَعرف الإحصائية الدقيقة لهذه المأساة الإنسانيّة منذ العام 2003!

بموجب تقديرات اللجنة الدوليّة للمفقودين التي تعمل بالشراكة مع حكومات العراق فإنّ عدد المُغيبين قد يتراوح بين 250 ألفا إلى مليون شخص للفترة من 2016 إلى 2020

ومع تصاعد نبرة الجدل والاتّهامات حول ملفّ المُغيبين نُشير وباختصار إلى أنّ الاعتقالات العشوائيّة، وبالذات خلال المعارك ضدّ داعش في الموصل والأنبار وغيرهما، وكذلك التعسّف في استخدام السلطات والصفات الرسميّة، تُعدّ من أبرز مصادر جرائم الاختفاء القسريّ!

وقضيّة الاختفاء القسريّ كارثة وطنيّة، ولهذا فإنّ المسؤوليّة الكبرى تقع على كاهل حكومة محمد شياع السوداني وضرورة سعيها لمعرفة مصير المُغيبين وبيان أماكن اعتقالهم، أو قتلهم حتّى يُحسم هذا الملفّ الإنسانيّ الحرج!

وقبل زيارة لجنة المُغيبين الدوليّة بـ24 ساعة دعت حكومة السوداني السجناء والمعتقلين الذين تعرّضوا لأيّ صورة من صور التعذيب أو الانتزاع القسريّ للاعترافات؛ لتقديم شكواهم إلى مستشار رئيس الحكومة لحقوق الإنسان مُعززةً بالأدلة الثبوتيّة.

وهذا يعني "قناعة" الحكومة بوجود انتزاع قسريّ للاعترافات، وهذا التشكيك الحكوميّ يَفرض عليها، إن أرادت إنصاف المظلومين، إعادة محاكمة كلّ منْ يَطلب ذلك مع توفير محامين لهذه المهمّة الإنسانيّة والمجتمعيّة لأنّ غالبيّة التهم كيديّة!

والسؤال البارز مع التشكيك الرسميّ:

لماذا حُكِم على الأبرياء باتّهامات باطلة، ولماذا يُطالبون اليوم، وبعد أكثر من عشر سنوات، بأدلة تُثبت براءتهم؟

هذا يعني "قناعة" الحكومة بوجود انتزاع قسريّ للاعترافات، وهذا التشكيك الحكوميّ يَفرض عليها، إن أرادت إنصاف المظلومين، إعادة محاكمة كلّ منْ يَطلب ذلك مع توفير محامين

إنّ الحكومة القائمة، وبموجب القانون الدوليّ والدستور، هي المسؤولة عن حَسْم الملفّات العالقة سواء ما يتعلّق منها بالاختفاء القسريّ، أو الاعترافات القسريّة لأنّ من أوجب واجباتها إنصاف المظلومين وحماية الناس من القوى الشريرة.

لقد ذاقت أسر المُغيبين أنواع الخوف والرعب والقلق والترقّب، ويترتّب على انضمام العراق للاتّفاقيّة المتعلّقة بالاختفاء القسريّ أن يعمل بموجبها لمعرفة مصير المُغيبين وإنهاء قضيّة الإفلات من العقاب!

نأمل أن يكون من ضمن مُخرجات زيارة اللجنة الدوليّة تشكيل لجنة رسميّة وبمعيّة لجان من الأمم المتّحدة، ومركز جنيف الدوليّ للعدالة، ومنظّمة هيومن رايتس ووتش، ولجنة حقوق الإنسان النيابيّة وغيرها لمعرفة مصير المُغيبين وحَسْم ملفّاتهم.

وكذلك العمل لرعاية عوائل المُغيبين في الجوانب المعاشيّة والصحّيّة والتعليميّة وتعويضهم تعويضا مُجزيا، وعدم تركهم يكتوون بنار الظلم، ويفترشون جمر القهر وسط نيران الطائفيّة وسموم العدالة الغائبة، وإلا فأنّى لهؤلاء أن تَطمئن نفوسهم، وتنام عيونهم، وتهدأ أرواحهم مع واقع مليء بالضياع لحاضرهم ومستقبلهم؟

ويُفترض نشر التوعية الوطنيّة وثقافة حقوق الإنسان بين المواطنين العراقيّين ليُساهموا في الكشف عن المعتقلات السرّيّة التابعة للقوى المسلّحة الخارجة عن القانون؛ لأنّ الدول البوليسيّة القمعيّة هي الحاضنة الآمنة لعصابات الاختفاء القسريّ، وبهذا فإنّ الدولة التي لا تُلاحق المجرمين شريكة في جرائمهم.

وتعتبر الدول التي لا تتمتّع بنسائم الحرّيّة معتقلات كبيرة، وأرضا خصبة لنموّ الآفات القاتلة للدولة والإنسان والحاضر والمستقبل!

انشروا الحرّيّة، وأوقفوا الحرب على المواطنين، وأنهوا نكبات المُغيبين وعوائلهم، وأفرغوا السجون من المظلومين، وازرعوا الكرامة حتّى ينمو الوطن ويزدهر، وتُقتلع الكراهية من المجتمع!