ياسر محجوب الحسين

قبل أن يغادر الرئيس الأميركي باراك أوباما البيت الأبيض بأيام قليلة، وقع في 13 كانون الثاني أمراً تنفيذياً برفع العقوبات الاقتصادية والتجارية التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركية على السودان منذ عشرين عاماً. وكان الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون قد اتخذ قراراً بفرض حظر تجاري شامل على السودان عام 1997، بتهمة رعاية الإرهاب الدولي وإيواء زعيم تنظيم القاعدة آنذاك أسامة بن لادن الذي كان يقيم في الخرطوم. بيد أنه ما زالت هناك عقوبات سوف ينظر في إلغائها بعد ستة شهور إذا تأكدت واشنطن مما تعتبره تطورات إيجابية من جانب الخرطوم، وحينئذ سوف تلغى بقية العقوبات لمدة عام قابل للتجديد. وفور صدور القرار سادت حالة غير مسبوقة من الاحتفاء والفرح في الخرطوم رسمياً وشعبياً، نظراً إلى الآثار الكارثية التي سببتها تلك العقوبات على مدى عشرين عاماً؛ لكن رفع العقوبات لن يغيّر الأوضاع ويحل مشاكل السودان الاقتصادية، ما لم تنفذ الحكومة حزمة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية تتعلق بدعم الإنتاج والصادرات، وتخطي الإجراءات البيروقراطية التي تعطل الاستثمارات الأجنبية وقطاع الصادرات، وترشيد الاستهلاك ودعم الصناعة والزراعة، فضلاً عن محاربة الفساد الحكومي المستشري.
ويأتي رفع العقوبات الأميركية عن الخرطوم في إطار خطوات مماثلة تجاه كل من كوبا وإيران؛ ومع دخول الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة «5+1» حيّز التنفيذ، رفعت واشنطن عقوباتها على طهران، حيث تمكنت إيران من فتح أبواب قطاعاتها الاقتصادية للشركات الأميركية، في مقابل تمكن هذه الشركات من عقد صفقات تجارية مع إيران. كذلك أعلنت الولايات المتحدة في 15 آذار 2016، رفع العقوبات المفروضة على كوبا في المجالين المصرفي والسياحي، وهي عقوبات استمرت لأكثر من خمسين عاماً.
كُلفة العقوبات وتأثيراتها
يقدر بعض الخبراء إجمالي الخسائر المباشرة خلال عقدين من الزمان بنحو 500 مليار دولار، أي بمعدل أربعة مليارات دولار سنوياً، مع العلم أن حجم صادرات السودان في موازنة العام الماضي (2016) لم يزد على نحو ثلاثة مليارات دولار، كان المواطن السوداني البسيط أكبر ضحية لقرار العقوبات. وأشارت دراسة سودانية إلى أن عدد السكان كان في عام 2009 تقريباً 32 مليون نسمة، فيما بلغت مصروفات التنمية في نفس العام 1139 مليون دولار بنصيب 35.7 دولاراً للفرد. وكانت نسبة السكان تحت خط الفقر في ذات الوقت 46%. ومع اشتداد وطأة العقوبات تفاقم الوضع ليصل عدد السكان تحت خط الفقر في عام 2014 نحو 58% فيما انخفضت مصروفات التنمية إلى 806 ملايين دولار، وانخفض نصيب الفرد من مخصصات التنمية إلى 21.6 دولاراً. وأصاب الدمار كل مقومات البنية التحتية للتنمية؛ فانهارت مؤسسات اقتصادية عريقة مثل الخطوط الجوية السودانية التي حرمت الحصول على قطع الغيار والصيانة الدورية لطائراتها، وتعرضت السكك الحديدية لخسائر بالغة بسبب تلك العقوبات، وفقدت 83% من بنيتها التحتية، وتمثل السكك الحديدية قطاع النقل الرخيص ذا الفائدة الاقتصادية لصغار المنتجين. كذلك تأثّر أكثر من ألف مصنع مباشرة بالعقوبات بسبب عدم حصولها على قطع الغيار أو البرمجيات الأميركية، وشمل ذلك الأجهزة الطبية والأدوية، فقد أوقفت التدابير الاقتصادية الأميركية الاجهزة الطبية التي تصنعها شركة جي اي الأميركية، وغيرها من ذات التصنيع الأوروبي. بالإضافة إلى حرمان الباحثين والطلاب وأساتذة الجامعات الزمالات والمشاركة في البحوث والدوريات العلمية. وكانت العقوبات عقبة في طريق قطاع التعليم العالي والتقني ومنعته من مواكبة التكنولوجيا. وبالرغم من أن قطاع البترول وجد في بعض دول شرق آسيا والصين بعض السلوى، لكن منع شركات البترول الأميركية ذات الإمكانات الفنية والمادية الضخمة من الاستثمار فيه، كان له تأثير بالغ، وقد شمل ذلك الشركات الأوروبية، وانسحبت شركة تلسمان الكندية تبعاً لتلك العقوبات. وهزّ قرار العقوبات الثقة في التعامل مع المؤسسات المالية الدولية والإقليمية والدول المانحة، ما أفقد السودان موارد متوقعة كانت كفيلة بسد الفجوة الخارجية.
أسباب رفع العقوبات
ما الذي دعا واشنطن إلى رفع العقوبات؟ هناك أسباب عدة يتداخل فيها السياسي مع الاقتصادي، ولا غرو فقد أرادت الإدارة الأميركية على مدى العقدين المنصرمين استخدام العصا الاقتصادية لتحقيق أغراضها السياسية.
بُعيد وفاة الزعيم الإسلامي الدكتور حسن الترابي في الخامس من آذار 2016 قالت مجموعة الأزمات الدولية في تقرير لها عن الترابي -الذي وصفته بأنه مهندس حكومة الإنقاذ الإسلامية- إن غيابه سيؤثر في إحياء المشروع الإسلامي بالسودان، الذي شهد تراجعاً مستمراً منذ خروجه من الحكومة أواخر تسعينات القرن الماضي.
وخلص التقرير إلى أن غياب الترابي يمكن أن يشجع الغرب على استكشاف واتباع نهج أكثر إيجابية في تعامله مع الخرطوم، التي وصفتها بأنها لاعب نشط على نحو متزايد في منطقة الشرق الأوسط المضطربة. فليس في الخرطوم -حسب التقرير- ما يستدعي الإبقاء على الحصار والعقوبات، ولا أحد في السودان يملك مشروعاً يشكل خطراً على الغرب. ويذكر البعض تصريحاً شهيرا للرئيس البشير في آذار 2009 قال فيه «لو أن أميركا رضيت عنا يوما فإن ذلك يعني أننا فارقنا الشريعة والدين». ولعل ملف مكافحة الإرهاب وتعاون الخرطوم في هذا الصدد كان له قدح مُعلى في قرار رفع العقوبات. وأول تواصل رسمي بين الحكومتين الأميركية والسودانية فور صدور قرار رفع العقوبات، كان بين مديري المخابرات في البلدين، حيث أجرى جون برينان مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أيه) اتصالاً هاتفياً مع محمد عطا مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني، وأكد المسؤولان استمرار العمل بين الجهازين من خلال خريطة الطريق التي قادت إلى رفع العقوبات. ولاحقاً قال مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني في تصريح صحافي: «ننسق ونتعاون مع الولايات المتحدة منذ ما قبل عام 2000 في مجال مكافحة الإرهاب» مضيفاً: «نفعل ذلك لأننا جزء من هذا العالم ونتأثر بما يحدث في دول الجوار مثل ليبيا، وحتى بما يجري في سوريا». وأكد أنه التقى مدير الـ (سي آي أيه) مرتين منذ تشرين الأول 2015، وشدد على أن الخرطوم مستعدة «لتحمل أعباء مكافحة الإرهاب».
التحدي الأصعب
لعل رفع العقوبات يبدو في أحد وجهي الحقيقة رفعاً لحمل ثقيل ظل السودان ينوء بحمله، أما الوجه الثاني للحقيقة فيتمثل في أنه يمثل تحدياً عظيماً أمام الحكومة. ويتكئ هذا التحدي على أمرين: أولهما كيف يحافظ النظام الحاكم على ورقة التوت ولا تنكشف التنازلات السياسية لواشنطن، حفاظاً على الحد الأدنى من المرتكزات الأيديولوجية التي برر بها النظام ثورته، فلا يجب المضي أكثر في منزلق البراغماتية السياسية، فكوبا وإيران لم تقدما لواشنطن أي تنازلات أيديولوجية. ومن المؤكد أن هناك عملاً كثيراً يحب القيام به عبر وضع ما يلزم من تدابير لاجتياز فترة الأشهر الستة القادمة، لمنع حدوث انتكاسة تُعطي مُبرِّراً لإدارة ترامب المتربصة، للتراجع عن القرار الذي أعانته. أما الأمر الثاني الذي يقوم عليها التحدي فهو متعلق بكيفية الاستفادة من قرار رفع العقوبات في دعم الاقتصاد السوداني.