ياسر محجوب الحسين

حشدت الخرطوم كل طاقاتها المادية والإعلامية لإعلان توصيات مؤتمر الحوار الوطني، ما أوجد حالة احتفالية غير مسبوقة بحضور أربعة رؤساء دول، وقائمة طويلة لممثلي عدد من الدول الأخرى والمنظمات الإقليمية الأسبوع الماضي.
وقد حضر الرئيس عمر البشير -في اليوم الأول- التوصيات الختامية للحوار، وأُعلن أنه تم التوافق عليها بنسبة 100%، وبعد أكثر من عامين من الشد والجذب وقع ممثلو الأحزاب وبعض الحركات المسلحة على 993 توصية في ختام المؤتمر الذي  أطلقه البشير في 27 كانون الثاني 2014، وتناولت التوصيات ملفات الهوية والحريات والحقوق الأساسية والسلام والوحدة والاقتصاد والعلاقات الخارجية وقضايا الحكم والحوار. بيد أن هذه الوثيقة لن تكون لها أي قيمة قانونية أو دستورية إلا إذا تحولت إلى تشريعات وقرارات واضحة لا لبس فيها. 
في اليوم الثاني حضر الاحتفال الرئيسي أربعة رؤساء، هم الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز الرئيس الحالي لجامعة الدول العربية، والرئيس التشادي إدريس دبي الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والرئيس الأوغندي يوري موسيفني. وصاحب ذلك تغطية إعلامية ضخمة في أكثر من 12 قمراً اصطناعياً على قنوات شبكة تلفزيون السودان والباقة الموحدة لقنوات اتحاد إذاعات الدول العربية عبر نظام المينوس. وخلال أكثر من عامين قضى المتحاورون السودانيون الذين مثلوا تسعين حزباً، و34 حركة مسلحة، و75 شخصية قومية، نحو 1154 ساعة.
مزيد من التمكين
لا شك أن مخرجات الحوار الوطني التي أعلن عنها لا غبار عليها شكلاً ومضموناً، ولا يمكن عاقلاً أن يرفضها، فقد جاءت شاملة لكل قضايا الحكم؛ بيد أن هناك من يرى أن المؤتمر الوطني الحاكم برئاسة البشير استطاع أن يحافظ على تفوّقه السلطوي. ويصف البعض ما تم التوصل إليه بالعسل الذي وضع فيه السّم بعناية فائقة. فالأحزاب والتنظيمات السياسية المشاركة في الحوار تغاضت في خضم لهفتها لنيل حظ من كعكة السلطة في حكومة ما بعد الحوار الوطني، عن الكثير من التوصيات التي تكرس وتبقي على هيمنة المؤتمر الوطني الحاكم. 
ففي محور الدستور على سبيل المثال، تمت التوصية بالإبقاء على دستور عام 2005 المُعدّل وتشكل على هداه حكومة الوفاق الوطني التي تُشكل بعد الحوار مباشرة. واستبقت الحكومة نتائج الحوار قبيل انتخابات 2015 بتعديلات دستورية لدستور 2005، كرّست السلطات في يد الرئيس، ولم تعبأ الحكومة باعتراضات أعضاء مؤتمر الحوار. 
كما جاء في توصيات الحوار الإبقاء على المجلس الوطني الحالي (البرلمان) بعد إجراء بعض التعديلات التي لن تخل بالأغلبية الميكانيكية لحزب المؤتمر الوطني، وقد جاء هذا البرلمان نتيجة لانتخابات نيسان 2015، وهي انتخابات رفض المؤتمر الوطني تأجيلها انتظاراً لمخرجات الحوار الذي بدأ في كانون الثاني. ويستتبع ذلك الإبقاء على مجالس تشريعية بالولايات على نسق البرلمان الاتحادي.
وتضمنت توصيات مؤتمر الحوار إنشاء منصب رئيس وزراء، وأبدى المؤتمر الوطني ممانعة في البداية لكنه وافق لاحقاً ممتناً بأنه قدم تنازلاً مهماً. لكن في ذات الوقت تم تحجيم منصب رئيس الوزراء ليغدو منصباً تنفيذياً بحتاً.
كما تضمنت مخرجات الحوار أن تدير البلاد عقب الحوار الوطني حكومة وفاق وطني برئاسة البشير، ومن قوى الحوار وخارجه بالتوافق السياسي. واتفق على أن يكون أجل الحكومة فترة انتقالية مدتها أربع سنوات اعتباراً من بداية تشكيلها خلال ثلاثة أشهر من إجازة التوصيات. 
وفي ما يتعلق بجهاز الأمن والمخابرات فقد اعترض المؤتمر الوطني وأحزاب موالية له على اقتراح بأن تقتصر مهمة الجهاز على جمع المعلومات وتحليلها وتبويبها وتقديمها للأجهزة المختصة وفق قانون جديد، وقانون الجهاز الذي تشتكي منه المعارضة الذي يمس ممارسة الحريات العامة. وفي ذات الوقت تم الإبقاء على تبعية الجهاز لرئاسة الجمهورية وعدم إخضاعه للمساءلة أمام البرلمان.
معطيات داخلية وخارجية كثيرة تمكنت الخرطوم من استثمارها في خضم أجواء الحوار، ما عضد الأجواء الاحتفالية التي حرصت على إظهارها؛ فإلى حد كبير مال الميزان العسكري في الحرب الأهلية في دارفور لصالح الحكومة. الحركات المسلحة المتمردة من جانبها وكذلك القوى السياسية وصلت إلى حالة يأس من سقوط النظام الذي بدا مسيطراً على جميع مفاصل الدولة، وغدا نظاماً عميقاً يصعب إسقاطه أو تفكيكه بعد حكم دام 27عاماً. فضلاً عن أن تدهور أوضاع دولة جنوب السودان انعكس سلباً على الحركة الشعبية (قطاع شمال) أكثر الحركات المسلحة تأثيراً.
من جهة أخرى، فإن قوى دولية مؤثرة كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي استجدّت لديها أولويات، مثل وقف الهجرة غير الشرعية ومحاربة الإرهاب، الأمر الذي أتاح الفرصة للتفاهم مع نظم حكم عزلتها حيناً من الدهر مثل النظام في السودان. كذلك هيأت مشاركة الخرطوم في عاصفة الحزم فرصاً مواتية لتدفق الدعم الخليجي والتخفيف من غلواء آثار الأزمة الاقتصادية الخانقة.
استدامة الأزمة
هناك قناعة متجذّرة بأن مخرجات الحوار الوطني حافظت أو ربما عزّزت مكتسبات حزب المؤتمر الوطني بزعامة البشير، حيث حافظت على سلطات الرئيس وعلى جهاز الأمن بتركيبته ودوره وقانونه، وإن كان هناك من تنازل فيمكن ملاحظته في توصية إقرار دستور ينبع ويعبر عن إرادة الشعب، واعتماد ممارسة الشورى والديمقراطية منهجاً للحكم. 
فتقديم إرادة الشعب وإقرار تقديم الديمقراطية الليبرالية جاء على حساب أولوية الشريعة الإسلامية في الدستور، وربما يتبع ذلك تعديل بعض القوانين. فالمؤتمر الوطني لا يمكن أن يتنازل عن سلطاته فيما يمكن أن يقدم تنازلاً في شأن الشريعة الإسلامية التي بنى عليها شرعيته منذ أن جاء إلى السلطة في حزيران 1989.
ومع أنه ليس من المتوقع أن تؤيد واشنطن الخرطوم تأييداً مطلقاً في خطواتها، لكن المتحدث باسم الخارجية الأميركية قال إن بلاده تراقب رغبة حكومة الخرطوم في الحوار الذي اعتبرته حواراً أولياً، أي أنها اعتبرت ما تم التوصل إليه حواراً بين الحكومة والقوى المتحالفة معها، على أن يكون هناك حوار شامل يضم الحكومة وفصائل المعارضة التي اعتزلت المشاركة. 
وتطالب المعارضة بضرورة قيام مؤتمر تحضيري في الخارج يضع التصورات الأساسية للحوار وهياكله وموضوعاته ورئاسته وغير ذلك. ولم تفلح جهود متصلة لأكثر من عامين، قادها رئيس جنوب أفريقيا السابق ثابو أمبيكي، بتفويض من الاتحاد الأفريقي في إلحاق تلك القوى بالحوار.