العدد 1464 /2-6-2021

بينما كانت عمليةُ التوريث تتمّ بسهولةٍ ويُسرٍ لافتين للنظر، والتي باركها حشدٌ من الزعماء العرب والوفود الأجنبية الذين حضروا للتعزيةِ بوفاة حافظ الأسد، وحرصوا على عقدِ اجتماعاتٍ منفردة مع نجله الذي لم يكن خلال مراسم التعزية والوفاة يملك أيَّ صفةٍ رسمية بعد، كان سوريون كثيرون يردّدون ما قاله الشاعر العباسي دعبل الخزاعي يوماً: خليفةٌ مات لم يحزنْ له أحد/ وآخر قام لم يفرحْ به أحد.

وسرعان ما قدّمتِ المستجداتُ الدولية والإقليمية حبلَ النجاة لبشار الأسد الذي اتخذ سياساتٍ خارجيةً جلبت له ضغوطاً دولية كبيرة، أهمها أحداث "11 سبتمبر" عام 2001، وما أعقبها من إعلان أميركا الحرب على الإرهاب، الذي أتبعته بغزوها لأفغانستان، ثم غزو العراق عام 2003 وما رافقه من تهديداتٍ أميركية لسورية، ثم صدور قرار مجلس الأمن 1559 القاضي بانسحاب الجيش السوري من لبنان، عام 2004. ومنحت كلُّ هذه التطورات الدراماتيكية رخصةَ حياةٍ جديدة للنظام السوري، فكان أكبر المحظوظين من متغيّراتٍ أفرزتها النتائجُ السلبية لحرب العراق، وتزايد التوتر في فلسطين. وتمكن من استيلاد وطنيةٍ سوريةٍ ذات طبيعة سلبية وضديّة. باعتماد ديناميكيات التخويف من الحصار الأميركي ومن الوطنية اللبنانية المناهضة للسياسة السورية (14 آذار التي أخرجتْ جيشه من لبنان). لكن العوائدَ الأثمن جاءت بها الفوضى العراقية التي أعقبت إسقاط صدّام حسين، بوصفها البديل الوحيد أمام سورية إذا ما سقط. أما الحكمة وراء هذا كله فكانت إبقاء الأمور على حالها تجنّباً للطوفان.

وبعد تحسّن وضع النظام السوري دولياً واقليمياً، بدأ انفتاحٌ دولي على مملكة الصمت. كما أدّى وصول باراك أوباما إلى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة إلى اتباع سياسةِ الانخراط مع سورية وعلى التوازي، مضى التحالف السوري الإيراني ليزدادَ قوّة. بيد أنّ الانتصاراتِ السورية بقيت خارجيةً فقط، واستمرت تُقيم على داخلٍ مجوّف ومُفرغ. وما بين منتصف 2006 و2008 مارستِ السلطةُ هجمةً أمنيةً جديدة على الإصلاحيين الوطنيين، فسُجن أو أعيد إلى السجون عشراتُ الصحافيين والكتاب وناشطِي حقوق الإنسان. وتكثّفتِ الرقابةُ على الإنترنت، وتتالى حجب المواقع الإلكترونية.

كلّ هذا القمع كان في الحقيقة يمهد لمرحلةٍ جديدة تجسّدت لاحقاً بقيام الثورة السورية التي كانت لتكون ضربة قاضية للنظام المستبدّ، لولا أنّه استفاد من نوباتِ الهلع التي انتابت العالم من الإشعاع الذي ولّدته انتفاضةُ السوريين، ومن إمكانية انتقاله إلى بلدان المحيط وإحداث التغيير، ما سيؤثر على ميزان القوى العالمي، نظراً إلى حساسيةِ المنطقة وأهميتها في موازين القوى. ولذلك عمل الجميعُ على إجهاضها ومحاولة حرفها عن مسارها. وحين فشلوا في إيقافها، عملوا بشكلٍ ممنهج على نخرها من الداخل، ونصّبوا عملاءهم في صدارة المشهد. وأصبحتْ جميعُ الأطراف تتصارع فيما بينها لتأمين مصالحها، بل ويقتتلون بدماء الشعب السوري المقهور، ويستثمرون معاناته.

وبعد 2011، لم تكن الانتخاباتُ السورية، النيابية والرئاسية، سوى إخراج كاريكاتيري لوضعٍ بلغ ذروةَ الاستعصاء، عبر تفاقم مضطردٍ لمسرحيةِ "محاولةِ التوازن" تغطيةً لواقعِ الهزيمة للنظام السوري، منذ سقوط أول نقطة دم، فالإيرانيون متمسّكون بسياسةِ تعفين الأجواء في عموم المنطقة عبر الشحن الطائفي، كما تمثّل سورية ركيزةً أساسيةً في مشروعهم الإقليمي، وجسراً حيوياً يربطهم بالحليف الإستراتيجي الآخر حزب الله اللبناني. في المقابل، لدى موسكو مصالح اقتصادية وعسكرية كبيرة، خصوصاً القاعدة العسكرية التابعة للبحرية الروسية في مدينة طرطوس. كما أنّ وجودها في سورية أشبه برسالةٍ إلى العالم، مفادها بأن روسيا لا تزال قوة يُعتدُّ بها على الساحة الدولية. وبالتالي، تفرض ترشيح الأسد بغية ضمان وهم شرعية وجودها، وبغية المراهنة على تحسين أوراقها التفاوضية في أيّة صفقةٍ محتملة. يُذكر أنّ موسكو تصدّت بـ"الفيتو" في مجلس الأمن 12 مرة لحماية الأسد من القرارات الغربية. ومنحتْه وطهران مساعداتٍ اقتصاديةً لتعويض تأثير العقوبات والحرب، فطبعت روسيا مذكراتٍ مصرفية سورية للالتفاف على عقوبات الاتحاد الأوروبي، في حين وافقت إيران على تقديم قروضٍ لسورية بقيمة ملايين الدولارات، والتي سدّدتْ ثمنَ الأسلحة والرواتب، وأبقتِ الدولةَ المتعثرة متماسكة.

مرّة أخرى، لعب الحظّ في دعم النظام ضد الثورة السورية. وخلال مرحلة التحضير لتشكيل جسمٍ سياسي، يقوم بمهمةِ قيادة الثورة محلياً ودولياً، كان الغربالُ الدولي يعمل من دون هوادة بعينٍ راصدةٍ للأشخاص وللمواقف، وبدأت مرحلةُ الاستقطاب من القوى الاقليمية كافة، التي عملت، بشكلٍ ممنهجٍ ومدروس، على منع السوريين من فرز قيادةٍ حقيقية للثورة سياسياً وعسكرياً، والتركيز على العناصر الهشّة والمطواعة لسهولة السيطرة عليهم وتوجيههم وفق المطلوب، يمكن التخلّص منهم بسهولة، وفي أية لحظة. فتشكلتْ معارضةٌ كمنتجٍ غير وطني، يهدف إلى دحرجةِ الشعب السوري البائس إلى مواجهةٍ غير متكافئةٍ مع النظام الفاشي.

ولا أحد أكثر حرفيةً ودهاءً من النظام السوري في استثمار الوقائع والمعطيات، مهما بلغتْ درجةُ تعقيدها لمصلحته. وسورية التي تتحكّم بها عملياً أكبر قوتين عالميتين (روسيا وأميركا)، وأقوى ثلاث قوى إقليمية (إيران وتركيا وإسرائيل)، بقيت نظرياً بيد الأسد الذي استفاد من تقاطع عوامل داخلية، أبرزها تحكّمه بالقوات الأمنية والعسكرية، وخارجية في مقدمتها تلكؤ الغرب في استخدام القوة ضده، مقابل دعم عسكري حاسم من إيران ثم روسيا. يضاف إلى ذلك الصبر والتلاعب بعامل الوقت. كما استثمر الورقة الأكثر أهميةً وحساسية، فشل المعارضة السورية، على اختلاف مكوّناتها، في توحيدِ صفوفها وتقديمِ بديلٍ جدّي عن النظام. وأسهم تصاعدُ نفوذ التنظيمات المتشدّدة، لا سيما تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، منذ العام 2014، في إضعافِ المعارضة سياسياً وعسكرياً. ومع استقطاب التنظيم آلاف المقاتلين الأجانب وتنفيذه هجماتٍ دامية في الخارج، انصبّ تركيز المجتمع الدولي، بقيادة واشنطن، على دعمِ الفصائل الكردية (بقيت خارج تكتّل المعارضة) وحلفائها لمواجهة الجهاديين، عوضاً عن دعم خصوم الأسد.

وساهمت عسكرةُ المعارضة السورية المهيمنة على صدارةِ المشهد التمثيلي للثورةِ السورية إلى تثبيت رواية النظام في الدفاع عن نفسه ضد الإرهاب. وبالتالي، نتائج وحصائل سلوك المعارضة لم تكن عدمية فحسب، بل سلبية ومتآمرة إرضاءً لمشغليهم. لذا نجح النظامُ نجاحاً ساحقاً في تفتيتها وشيطنتها. ومنذ البداية، أطلق سراح آلاف الجهاديين، على أمل تزعمهم التمرّد حتى يصدّقَ العالمُ كذبةَ أنّه عنفُ إسلاميين متشدّدين. وفي الحقيقة، جلّ المجهود العسكري للنظام استهدف المعارضة المعتدلة، وليس "داعش" وأخواتها، إذ كانت الأخيرة تسيطر على مناطق بعيدة أقصى الشرق، أما الثوار فكانوا يهدّدون معاقله الرئيسة في الغرب، كي لا يتبقى أمام العالم سوى "داعش" والنظام للاختيار بينهما. واليوم، وسط مُماطلةٍ وتعقيدٍ مقصودين لمجريات الحلّ السياسي من النظام السوري وحلفائه، يكشِفُ إعلان الأسد عن ترشُّحه لولايةٍ رئاسية ثانية دستورياً ورابعة فعلياً، ومن ثم فوزه، أنّ ملف الصراع قد وصل إلى نهايته، وأنّ مرحلةً جديدة من الخراب قد بدأت في سورية، ينبغي استثمارها في ظلّ مناخاتِ الصراع والاستبداد، والاستقطابات المذهبية والإثنية والمناطقية.

عبير نصر