العدد 1436 / 11-11-2020

حسين عبد العزيز

باعتبارها دولة عظمى لها مصالح متداخلة في عموم المعمورة، تمتلك الولايات المتحدة سياسات استراتيجية بعيدة المدى، لا تتغير بتغير الرؤساء الأمريكيين، خصوصا في ما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط و"الأمن القومي لإسرائيل".

غير أن للرؤساء الأمريكيين هامشا من التحرك الداخلي والخارجي، يسمح لهم بتلمس وتقديم مقارباتهم ورؤيتهم للملفات المطروحة، وهذا الهامش ليس مهما بالنسبة للأمن القومي الأمريكي بقدر ما هو مهم للأطراف الأخرى، بمعنى أن هذا الهامش لا يغير من الاستراتيجيات الثابتة والبعيدة المدى للولايات المتحدة، لكنه ذا تأثير مهم على الأطراف الخارجية.

الهوامش المتاحة للرئيس الأمريكي كافية لإحداث تغيير، لا في أهداف السياسة الأمريكية الخارجية وإنما في أدوت تطبيق هذه السياسية، وهو فرق لا يمكن التقليل من شأنه لأن النتائج العسكرية والسياسية والاقتصادية ظهرت بوضوح بين إدارتي أوباما وترامب حيال الملف السوري.

على سبيل المثال لا الحصر، لم يؤثر قبول أو رفض الولايات المتحدة للاتفاق النووي مع إيران على المصلحة الأمريكية العليا، لكنه أثر تأثيرا كبيرا على إيران، في الحالة الأولى، أي القبول بالاتفاق كما جرى في مرحلة أوباما، حصل انتعاش سياسي واقتصادي مهم بالنسبة لإيران، في حين أدى خروج ترامب من الاتفاق وتشديد العقوبات إلى انعكاسات سلبية عليها، ظهرت على المستوى الاقتصادي الداخلي وعلى مستوى السلوك الخارجي في العراق وسوريا.

بالنسبة لسوريا، هذا الهامش مهم، ولا يجب التعامي عنه، وقد أظهرت إدارتا أوباما وترامب أهمية الهوامش المتاحة للرئيس الأمريكي.

صحيح أن رفض إسقاط النظام السوري عسكريا أو توجيه ضربات عسكرية قوية له من جهة، وعدم تمكين المعارضة العسكرية من جهة أخرى، هي مواقف ثابتة للولايات المتحدة تعبر عن مصالحها العليا بغض النظر عمن يجلس في البيت الأبيض، لكن الصحيح أيضا أن اختلاف التكتيكات بين الإدارات له أهمية كبيرة.

لن تكون مرحلة بايدن أكثر قوة من مرحلة ترامب، ولن تكون بالمقابل في مستوى سياسة أوباما، بل ستكون بين هذا وذاك، وهو مستوى كاف لإعطاء النظام السوري وإيران فرصة لإعادة ترتيب أوراقهما من جديد.

آثر أوباما اتباع سياسة ناعمة حيال الملف السوري، في وقت آثر أو مال إلى الرؤية الروسية في كثير من النقاط، في حين آثر ترامب اتباع سياسة أكثر تشددا حيال النظام السوري، لاسيما في المستوى الاقتصادي.

لا يعني ذلك أن وصول بايدن إلى الرئاسة أنه سيتبع خطى أوباما، لأن ظروف الملف السوري اختلفت كثيرا: في مرحلة أوباما كانت الأولوية لترتيب شروط الميدان العسكرية، ولترتيب القاعدة السياسية التي سينطلق منها الحوار السوري ـ السوري برعاية الأمم المتحدة.

أما الآن، فالوضع مختلف، حيث لم يعد بيد الولايات المتحدة بعد انحسار المعارضة العسكرية في بقع جغرافية صغيرة، سوى الإبقاء على ضغوطها الاقتصادية والسياسية والعسكرية المتمثلة بالوجود العسكري شرق الفرات.

أعلنت حملة بايدن أن العقوبات الاقتصادية ستستمر وأن الوجود العسكري الأمريكي سيبقي في سوريا، وأن الضغوط السياسية لدفع التسوية السورية ستبقى قائمة، وأنه لا يمكن البدء بإعادة الأعمار قبل نضوج التسوية السياسية.

وقد أعلن المبعوث الأمريكي للشأن السوري جيمس جيفري أنه لن يكون هناك تغيير في السياسة الأمريكية في سوريا إذا تغيرت الإدارة الأمريكية أم بقيت نفسها.

بيد أن ذلك غير كاف، فبايدن يمتلك رؤية مختلفة عن ترمب حيال الدولتين الإقليمتين الفاعلتين في الجغرافية السورية (إيران، تركيا)، فهو يرغب في إعادة تفعيل الاتفاق النووي الإيراني وإصلاح العلاقة مع إيران، وهذا أمر يتطلب بالضرورة تقديم تنازل أمريكي لإيران في ملفات المنطقة، خصوصا في العراق وسوريا، بما ينعكس إيجابا على النظام السوري، ويضرب عرض الحائط الضغوط السياسية والاقتصادية الأمريكية على النظام.

في مقابل ذلك، يتمسك بايدن بسياسة داعمة للأكراد وسياسة متشددة حال تركيا في سوريا، فقد رفض سابقا خطوة ترامب بمنح الأتراك فرصة التحرك في الشمال السوري، وقد يعني ذلك وضعا صعبا لتركيا ولفصائل المعارضة السورية في إدلب ومناطق "غصن الزيتون" و"درع الفرات" و"نبع السلام"، بما يمنح الروس فرصة أخرى لممارسة الضغط على تركيا.

ومثل هذه السياسة إذا ما طبقت فعلا، فإنها ستعطي انطباعا بأن الإدارة الأمريكية متساهلة حيال النظام السوري، وقد تدفع كلا من روسيا والنظام إلى استكمال العمليات العسكرية في الشمال الغربي من البلاد، وإلى التشدد أكثر حيال الملف السياسي، وحيال ملف المعتقلين والمختفين قسريا.

كما أن مثل هذه السياسة، قد تدفع دولا عربية إلى إعادة تفعيل انفتاحها السياسي على النظام السوري، وهو انفتاج جرى صده من قبل إدارة ترامب.

وفقا لذلك، لن تكون مرحلة بايدن أكثر قوة من مرحلة ترامب، ولن تكون بالمقابل في مستوى سياسة أوباما، بل ستكون بين هذا وذاك، وهو مستوى كاف لإعطاء النظام السوري وإيران فرصة لإعادة ترتيب أوراقهما من جديد.