العدد 1453 /17-3-2021

الشيخ محمد أحمد حمود

أخطر ما يمكن ان يواجهه أي مجتمع هو التشظّي الداخلي والانقسام، فذلك يفتح عليه أبواباً كثيرة يصعب غلقها أو مواجهة المتربصين من الخارج إذا دخلوا منها. لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً دائماً على تماسك الصف في المجتمع، ولم يكن يسمح لجبهته الداخلية بالتشظّي والانقسام، وكان يقيم التحالفات ويبني الائتلافات، ليس ذلك بين المسلمين فحسب بل ومع مجتمع المدينة وكل شركاء الوطن من غير المسلمين كذلك.

لقد كانت عملية صناعة مجتمع متماسك يعرف طريقه نحو الريادة الأخلاقية والمادية، التي تؤهله لأن يكون مجتمعاً محباً متماسكاً بوجه كل الأعاصير، ويُخرِجه من الظلمات إلى النور عمليةً بغاية الصعوبة، في ظل الظروف المعقدة التي كانت تحياها المجتمعات العربية في شبه الجزيرة العربية وقتها، من فُرقة وتشرذم واقتتال.. فكان من أهم ما فعله الرسول الكريم هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

عند وصول الرسول صلى الله عليه وسلّم الى المدينة المنورة مهاجراً وجد خليطاً سواء من المسلمين أنفسهم او من غير المسلمين. فكان من لوازم المشروع والرسالة التي يحملها والمراد تبليغها والتأسيس لها من خلال هذه التجربة الإنسانية تقتضي إيجاد رابطة أعم وأعمق تصدق على واقع المدينة المتنوع والمتعدد في أطيافه وألوانه المجتمعية والعقيدية. وهذا ما فعله الرسول الكريم عندما عقـد اتفاقاً مع المسلمين وغير المسلمين، عرف باسم صحيفة المدينة، فكان بحق أول من وضع المعنى الحقيقي لمفهوم المواطنة المسؤولة والمحدودة بحدود وضعها الرسول عليه الصلاة والسلام.

كان عليه الصلاة والسلام يدرك تماماً أن تماسك الصف في مجتمعه وقوة وصلابة جبهته الداخلية هي المعيار المهم لبناء مجتمع ودولة متماسكة لا تتسلل اليها والى أفرادها سموم أي متربص من الخارج. ومن يتتبع صحيفة المدينة وهي الميثاق الذي وضعه الرسول الكريم والاتفاق بين المسلمين وغير المسلمين، التي تتضمن 47 بنداً، يرى بوضوح كيف أسّس الرسول الكريم لـ مبدأ المواطنة، من خلال الاعتراف بالتعددية واحترام حقوقها وواجباتها لكل من سكن المدينة مسلماً كان أو غير مسلم. فنلاحظ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وصف المسلمين واليهود وغيرهم ممن دخلوا في هذه الاتفاقية بأنهم أمة من دون الناس، وأنهم جماعة لديها اتفاق يخصها دون غيرها من الجماعات خارج المدينة. ومن خلال بنود هذه الصحيفة أيضاً تشكَّل إطار واسع للتعايش بين الأديان والجماعات الإنسانية المتنوعة، تحت سقف دولة يعيش في كنفها مواطنون لهم حقوق وعليهم واجبات.