العدد 1532 /12-10-2022

معتز الفجيري

قدّم الحكم الصادر في 22 الشهر الماضي (أيلول) عن المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب في قضية المحامي التونسي، إبراهيم بلغيث، ضد الجمهورية التونسية، تفسيرا قانونيا مغايرا للرؤية التونسية الرسمية للشرعية الدستورية والقانونية لسلسلة التدابير الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد من 25 تموز وحتى 11 تشرين الأول 2021، وما تلاها من تدابير تشريعية ودستورية، وصولاً إلى الاستفتاء الذي جرى أخيرا على الدستور التونسي الجديد. وقد كشف نصّ هذا الحكم أيضاً عن نمط تعامل أنظمة الحكم ذات الطبيعة الشعبوية مع القضاء الإقليمي والدولي المعني بحماية حقوق الإنسان، وتصدير هذه الأنظمة فكرة التفويض الشعبي في مواجهة عمل مؤسّسات حكم القانون.

طبقاً لحكم المحكمة الأفريقية، مثلت هذه التدابير الاستثنائية انتهاكاً للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وفي مقدمها الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، وشكّلت أيضاً انتهاكاً لمقرّرات الدستور التونسي الصادر عام 2014، فقد أقرّت المحكمة الإقليمية التي ينتمي قضاتها لدول أفريقية أن سلسلة المراسيم الدستورية التي صدرت منذ تموز 2021 مثلت قراءة مغالية للمادة 80 من الدستور التونسي لعام 2014، والتي كانت تمنح رئيس الجمهورية اتخاذ تدابير استثنائية في ظل شروط محدّدة، فقد رأت المحكمة أن استناد الرئيس إلى هذه المادة لم يكن له مبرّر قانوني مقنع في ظلّ مقتضيات الدستور التونسي ذاته، وضوابط المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. كما تفتقد أيضاً هذه المراسيم، طبقاً للمحكمة، الضمانات الشكلية والإجرائية التي كفلتها المادة 80 من الدستور التونسي لعام 2014. كما اتّجهت المحكمة إلى أن هذه التدابير الاستثنائية لم تمنح المواطنين التونسيين آلية محايدة للطعن عليها، ومثّلت انتهاكاً صريحاً للحقّ في المشاركة السياسية، عبر إنهاء عمل المؤسسات الدستورية التمثيلية. للامتثال مع الحكم، طالبت المحكمة تونس بإلغاء كل الأوامر الرئاسية الاستثنائية، والعودة إلى الديمقراطية الدستورية، وطالبت بتأسيس محكمة دستورية مستقلة لسد الفراغ الذي ساهم في تأجيج الانقسامات السياسية على تفسير الدستور، والعلاقة بين سلطات الدولة.

يقدّم تعاطي السلطات التونسية مع مراحل الدعوى التي نظرتها المحكمة الأفريقية مثالاً عملياً للممارسات القانونية الدولية للحكم الشعبوي، تلك الظاهرة التي سماها القاضي الدولي، أندريا ساجو، في كتابه الصادر حديثاً عن كامبريدج "الحكم بالخداع في الحكم الديمقراطي غير الليبرالي"، في إشارة إلى التكتيكات الدستورية والقانونية التي تتّخذها مثل هذه الحكومات تحت مسمّى تمثيل الشعب، والتحدّث باسم الأغلبية، بصرف النظر عن مقتضيات مؤسّسات الديمقراطية الليبرالية، وحكم القانون. ففي أوروبا، ناصبت حكومات اليمين في بولندا والمجر في السنوات الأخيرة العداء لاختصاصات وأحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وفي أيلول 2012، انسحبت فنزويلا تحت حكم الرئيس السابق، هوغو شافيز، من الاتفاقية الأميركية لحقوق الإنسان بعد اتهام اللجنة الأميركية لحقوق الإنسان، التابعة لمنظمة الدول الأميركية، بأنها أداة في يد الولايات المتحدة. لقد استندت الحكومة التونسية، طبقاً لأوراق قضية إبراهيم بلغيث، إلى دفعين لتحدّي اختصاص المحكمة الأفريقية للنظر في هذه الدعوى. تمثل الأول في عدم أحقية المواطن المحامي التونسي صاحب الدعوة في التوجّه إلى المحكمة الأفريقية لأنه لا يحظى بتفويض أو توكيل شعبي، وليس من حقّه التحدّث نيابة عن المجتمع التونسي في أمورٍ تحظى بدعم شعبي وجماهيري. وتمثل الدفع الثاني في أن نظر المحكمة هذه الدعوى يمثل تحدّيا لسيادة الدولة التونسية، بما يمثله المفهوم من سيادة تشريعية ودستورية، وامتلاك الدولة السلطة العليا على إقليمها، وشؤونها الداخلية. لكن الحكومة التونسية لم تتقدّم، إضافة إلى هذين الدفعين، بمناقشة قانونية تفصيلية في صلب الادّعاءات الموجّهة إليها في القضية.

صادقت تونس بشكل طوعي على الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب في 21 تشرين الأول 1986، ثم صادقت بشكلٍ طوعيٍّ على البروتوكول الاختياري للمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب في 2 حزيران 2017 في ظل توجّه عام بعد الثورة التونسية، تمثل في قبول اختصاصات اللجان الدولية والإقليمية القضائية وشبه القضائية في نظر شكاوى فردية، والتصديق على معاهدات دولية وإقليمية لحقوق الإنسان، من ضمنها الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، وسحب بعض التحفظات التي أبدتها تونس في مراحل تاريخية سابقة على اتفاقات حقوق إنسان أخرى، من بينها الاتفاقية الدولية لمناهضة كل أشكال التمييز ضد المرأة. فطبقاً للمحكمة الأفريقية "مصادقة الدولة على المعاهدات والصكوك الدولية المنشئة لمحكمة دولية هو تجسيدٌ لإرادة الدولة، وتعبير عن موافقتها على التنازل عن جزءٍ من سيادتها لقبول ولاية تلك المحكمة"، لم يكن توجّه المحامي التونسي إلى المحكمة الأفريقية سوى ممارسة لاختصاص قبلته تونس من قبل في إطار نظامها الدستوري والقانوني. ولا يتطلب اللجوء لأليات حكم القانون، محلياً أو دولياً، أن يكون صاحب المصلحة مفوضا جماهيرياً وشعبياً، وإلا انتفى الغرض من الحماية التي تقدّمها الدساتير واتفاقات حقوق الإنسان الدولية باعتبارها تحمي الفرد ليس فقط ضد مؤسسات الدولة، ولكن ضد ما يمكن تسميته استبداد الأغلبية في سياقات قد تمرّ بها المجتمعات في تطورها السياسي. من ناحية أخرى، اتهام آليات حقوق الإنسان في ظل الاتحاد الأفريقي كونها تهدّد السيادة الوطنية، أو تمارس التسييس أو تتدخّل في الشؤون الداخلية للدول، ليس في محله بالمرّة، تجاه مؤسّسة تطوّرت تاريخياً باعتبارها تمثل رؤية حقوق الإنسان، وحمايتها في الجنوب، ومن شعوب الجنوب، بعيداً عن المركزية الغربية أو الأوروبية.

لا يُتوقّع، في ظل المشهد السياسي الراهن، امتثال السلطة التنفيذية مع هذا الحكم، خصوصا بعد فرض واقع دستوري جديد، وفي ظل الترتيب للانتخابات التشريعية نهاية هذ العام، فضلاً عن استمرار تمتّع الرئيس التونسي بامتداد شعبي لا يعبّر، بالضرورة، عن انجذابٍ لطريقة تسيير شؤون الدولة بقدر ما يعبّر عن عدم ثقة في الطبقة السياسية التي تداولت على السلطة، مند إطاحة الرئيس السابق زين العابدين بن علي. ولكن هذا الحكم القضائي الدولي يمثل، على المدى الطويل، خطاباً داعماً للحركة الحقوقية والسياسية التونسية، للضغط على السلطات التونسية لفتح حوار سياسي شامل لعودة مسار الديمقراطية، والشرعية الدستورية باعتباره البديل الأفضل للتعامل مع التحدّيات الاجتماعية والاقتصادية الجسيمة التي تواجها البلاد. في ظل انسداد سبل الانتصاف المحلية، لم يعد أمام النشطاء العرب سوى البحث عن طرق أخرى وراء الحدود الوطنية لتحقيق العدالة. لا يُغني هذا التوجه المتزايد بشكل خاص في مصر وسورية والسودان وتونس والجزائر وليبيا عن النضال والتنظيم السياسي طريقا للتغيير، ولكنه يظل ملاذا أخيرا لتحدّي الخطابات القانونية والسياسية السلطوية، والعداء للحقوق والحرّيات الفردية.