ساري عرابي

في الذكرى التاسعة والعشرين لانطلاقتها، قدّم الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، الدكتور رمضان عبد الله شلح، عشر نقاط تهدف إلى الخروج من المأزق الفلسطيني الحالي، مدرجاً تلك النقاط في رسالة حركته إلى الشعب الفلسطيني في ذكراها، وهي الرسالة التي حملت عنوان «واجب التحرير، لا وهم السلطة».
هذا العنوان عالي الكثافة، يتضمن معالجة تاريخية للأزمة الفلسطينية الذاتية، منذ أن انحرفت الحركة الوطنية الفلسطينية عن سؤال التحرير، إلى سؤال الدولة والتمثيل، وهو الانحراف الذي آل بالمشروع النضالي الفلسطيني إلى أن تتحول السلطة إلى عامل انقسام، وحاجز يحول دون قدرة الجماهير على مقاومة العدوّ.
في تاريخية المأزق
وبالعودة إلى حركة فتح نفسها، فإننا نجدها في مطلع سبعينيات القرن الماضي -وقبل تبنيها لمشروع الحل المرحلي عام 1974- تقول في بيان لها عن مشروع إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة: «إن هذا المشروع الوهمي يقصد به خلق انشقاقات بين صفوف الشعب الفلسطيني.. كما أن هذا المشروع إن نفذ سيخلق كياناً هزيلاً غير قادر على حماية نفسه، كما يجعلنا نتنازل عن الأرض المحتلة قديماً، ويكرس بشكل شرعي وجود إسرائيل».
ونجد فتح أيضاً -في نص آخر- تقول عن ذلك المشروع، قبل أن تعود وتتبناه: «إن هذا الشعار (أي الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة)، تعبير عن مؤامرة صهيونية أميركية، تهدف إلى الحفاظ على وجود إسرائيل وإقامة منطقة عازلة تستخدم ممراً لدولة الاحتلال الصهيوني، كي تَنفذ إلى الأقطار العربية سياسياً واقتصادياً».
(النصان في كتاب «المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني: دراسة تحليلية لهجمة أيلول»، الصادر عن مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير، سنة 1971).
لم تكن فتح إذن غافلة، ومنذ 45 عاماً، عن مآلات مشروع الدولة الفلسطينية التي ينبه إليها شلّح الآن، وهي اليوم لا تزيد على كونها مجرد سلطة إدارية وأمنية، بلا أي أفق سياسي، وقد كفت تماماً عن تقديم الوعود السياسية للفلسطينيين، وقد تنبأ بعض مفكري الثورة الفلسطينية في ذلك الوقت بالمآلات المحققة لهذا المشروع كأنهم ينظرون إليها الآن.
لقد تنبأ المفكر الفلسطيني منير شفيق عام 1972 بأن الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة ستكون كياناً هزيلاً صورياً مجرداً من كل مقومات الدولة المستقلة، ليقوم بمهمة تصفية القضية الفلسطينية، والثورة الفلسطينية، والاعتراف بـ«إسرائيل» ليكون لها بمثابة جسر اقتصادي وسياسي وثقافي إلى العالم العربي، والعازل العسكري لمصلحتها.
وستكون هذه الدولة -بحسب ما تنبأ منير شفيق عام 1972- دولة مرتبطة بالعدو، تأخذ عنه مهمة جلد الشعب الفلسطيني واضطهاد ثواره، بينما تترك له أخذ كل شيء.. مجردة من السلاح، ومرهونة إلى المساعدات العربية والأجنبية لصرف رواتب موظفيها! 
 (مجلة شؤون فلسطينية، عدد 7 آذار 1972).
أين المشكلة؟
لم تكن مشكلة فتح -منذ أن قررت تبني المشروع الذي سبق ووصفَته بما هو أعلاه- في ندرة الناصحين، أو في انعدام القدرة على التنبؤ، وليست مشكلتها اليوم في ضعف ملاحظة الوقائع التي أفضى إليها هذا المشروع، فهي حين رفضته أول مرة فلأنه طرح بمعزل عنها، وهي إذ عادت وتبنته فلأنها رأت بعد حرب 1973 فرصة لتحقيق الاعتراف الدولي بها، وقطع الطريق على التمثيل الأردني، أو القيادات البديلة من داخل الأرض المحتلة.
وهي وإذ تتمسك به اليوم، فليس لأنها غير مدركة لأنه انتهى في مكانه، وفقد القدرة على الارتقاء إلى أي صيغة سياسية أعلى منه، ولكن لأن الواقعية الفتحاوية شديدة الضيق، ولا تتعلق بمشروع وطني بقدر ما تتعلق بشهوة السلطة والتمثيل، فالمنطق السياسي الحاكم لفتح، أن السلطة إن لم تقم بها، أو بقيادة متنفذة فيها، قامت بغيرها، وقد صار المنطق اليوم أشد تعقيداً بعدما صارت السلطة أمراً قائماً ترتبط به المصالح والمغانم والسلطة الشخصية. ولكن هناك ما هو أكثر تعقيداً من نزعة التمثيل الفتحاوي، وارتباط فتح عضوياً بمشروع السلطة الفلسطينية.
عودة إلى نقاط الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، فإن جوهرها يتمثل في الدعوة لإلغاء اتفاق أوسلو فلسطينياً، وسحب اعتراف منظمة التحرير بالكيان الصهيوني، وإعادة بناء منظمة التحرير، وإعلان المرحلة الراهنة مرحلة تحرر وطني، وإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية.
ومن نافلة القول، إن تحقيق هذه النقاط يتعلق لا بحركة الجهاد الإسلامي أو بحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وإنما بقيادة حركة فتح الحالية، وقد أحسن الدكتور رمضان إذ سمى الأشياء بأسمائها، وأناط الموضوع كله بإرادة قيادة منظمة التحرير، وتحديداً الرئيس الحالي، وتجاوز بذلك اختزال الأزمة في الانقسام، والمساواة بين طرفيه.
فالسلطة مشروع فتح لا مشروع حماس، حتى لو دخلته حماس على قاعدة المرونة في التعاطي مع الوقائع التي فرضتها فتح، والطرف الذي يتمسك فلسطينياً بالتزاماته تجاه اتفاق أوسلو هو الطرف الحاكم في الضفة الغربية، وهو الطرف المعترَف به إقليمياً ودولياً، بينما توقف الاحتلال تماماً عن القيام بالتزاماته تجاه أوسلو، بل وأنهى أوسلو فعلياً بإعادة احتلاله للمناطق (أ) في الضفة الغربية.
المبادرات الممكنة
لا تكفي الدعوة لحل السلطة، وإلغاء اتفاق أوسلو، وإنما ينبغي أن يستند ذلك إلى رؤية واضحة لكيفية إدارة شأن الفلسطينيين، ومواجهة الاحتلال وإجراءاته، بل ومواجهة القوى الدولية والإقليمية، فمشروع السلطة لا يتعلق بإرادة فتح وقيادتها وحدها.
ولأن الأمر على هذا النحو، أي أنه مرتبط بفتح وقيادتها، ومتعلق بأسئلة ضخمة من قبيل مصالح ملايين الفلسطينيين، وردود فعل الاحتلال والأطراف المتعددة ذات الصلة بمشروع السلطة، فإن المبادرات الحقيقية، ينبغي أن تتجاوز تسجيل المواقف المقدر، إلى تقديم مبادرات جدية، تنطلق من القدرات الفعلية للفصائل الفلسطينية.
وأول ما ينبغي أن تقوم عليه هذه المبادرات أن تراجع الفصائل الفلسطينية، ولا سيما فصائل المقاومة أوضاعها الذاتية، وأن تستند إلى عوامل ذاتية في تعزيز صمودها ومقاومتها، ثم أن تسعى إلى التكامل في ما بينها، والتشارك في النهوض بالمسؤولية.