حول جديّة التهديدات الإسرائيلية لتجديد العدوان على لبنان
العدد 1688 /5-11-2025 د. وائل نجم

الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة والأجواء اللبنانية لا تتوقّف، ولا يمكن الحديث عن آخر انتهاك أو تجاوز أو اعتداء، ولكن البارز منها خلال الأسبوع الأخير هو التوغّل البرّي ليلاً في بلدة بليدا الجنوبية، والاعتداء على مبنى البلدية وقتل حارس المبنى الذي كان يقوم بوظيفته وواجبه، وبالمناسبة هو موظف لدى مؤسسة من مؤسسات الدولة، هذا ناهيك عن الاغتيالات الجويّة التي لم تتوقّف يوماً، أو الغارات الحربية التي تطال مناطق واسعة في الجنوب أو حتى في البقاع. غير أنّ الملفت خلال الأيام الأخيرة هو حديث المبعوث الأمريكي، توم برّاك، عن ضرورة التزام لبنان بحصر السلاح بيد الدولة وأجهزتها وفي أقرب وقت، الإشارة إلى عدم مسؤولية الولايات المتحدة فيما يمكن أن تقوم به أو تُقدم عليه قوات الاحتلال، كما لو أنّ هذه التصريحات الإعلامية بمثابة إشارة ضوء خضراء لقوات الاحتلال لتجديد العدوان على لبنان. تزامنت هذه التصاريح والانتهاكات مع مواقف وتهديدات أطلقها عدد من المسؤولين الإسرائيليين سيّما وزير الحرب، الذي طالبت تهديداته الدولة اللبنانية وليس حزب الله فحسب، كما تزامنت مع تقارير إعلامية كثيفة راحت تضخّم قدرة حزب الله من جديد كما لو أنّها تريد تحضير الرأي العام الإسرائيلي لعمل ميداني يمكن أن تقوم به قوات الاحتلال. كما تتزامن هذه التصريحات والانتهاكات والمواقف مع مناورات ومع تحشيد لقوات الاحتلال عند الحدود الجنوبية اللبنانية، فهل يأتي ذلك في إطار الضغط على لبنان لإرغامه ودفعه للانخراط في مفاوضات مباشرة من أجل الاعتراف بالهزيمة، والنزول على الشروط الإسرائيلية حتى يتمّ طي صفحة الحرب نهائياً؟! أم أنّها تأتي في سياق فعلي حقيقي لتحضير الميدان وبالتالي توجيه ضربة جديدة لحزب الله وبالتالي لبنان؟! الحقيقة أنّ هذه التهديدات والتحضيرات والمواقف تأتي في سياق الأمرين معاً، بمعنى آخر في سياق الضغط لدفع لبنان إلى التنازل والخضوع للشروط الإسرائيلية من دون قتال، وفي هذه الحالة يكون قد تحقّق لكيان الاحتلال ما يريده من دون عناء ومن دون قتال، غير أنّه يعني أيضاً أنّ حزب الله وقوى المقاومة في لبنان ستظلّ تحتفظ ولو بشكل سرّي وتحت الأرضة بقوّة معيّنة، وستدخل مرحلة ممارسة الكمون والانتظار إلى حين تغيّر الظروف وبالتالي يصبح بالإمكان الخروج على الواقع المفروض والنتافض عليه. ولكن هناك أيضاً من يقول إنّ التهديدات فعلية وحقيقية وتدخل في إطار الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة التي تولّدت بعد الحرب على غزة ولبنان، والتي تخلّت عن استراتيجية الردع لتتبنّى استراتيجية السحق والقضاء التام والمبرم على "الاعداء". وهذه الاستراتيجية الحقيقة باتت معتمدة من قبل رئيس حكومة الاحتلال ومن قبل حكومته، ولكن من غير المعروف إذا ما كانت هذه الاستراتيجية هي استراتيجية حكومة أم استراتيجية دولة، وعليه فإنّ نتنياهو وفريقه الذين يعتمدون استراتيجية السحق والقضاء التام على "العدو" لن يتوانوا عن القيام بعدوان جديد لسحق "حزب الله" خاصة إذا ما استذكرنا أنّ هدفهم الرئيسي إقامة "إسرائيل الكبرى" من الفرات إلى النيل، وأنّ هذا تراجع بفعل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، أنّ نتنياهو يرى في تجديد العدوان على لبنان يشكّل فرصة للانقلاب على كل الاتفاقات وخلط الأوراق من جديد. الجديد في المشهد هو دعوة رئيس الجمهورية جوزاف عون الجيش للتصدّي لأي خرق إسرائيلي ميداني في أي مكان من الأراضي اللبنانية، لأنّ ذلك من مسؤولية الدولة، التي تتحوّل بشكل تدريجي من دولة شاهدة على الاعتداءات إلى دولة مقاومة لتلك الاعتداءات، وهو محل إجماع لدى كلّ اللبنانيين.

الاستحقاق الانتخابي واحتمالات التأجيل!
العدد 1687 /29-10-2025 د. وائل نجم

الجدل يحتدم بين القوى السياسية حول قانون الانتخابات النيابية في ظلّ الانقسام على مسألة انتخاب اللبنانيين المغتربين بين من يدعو إلى مشاركتهم بالانتخاب من خلال صناديق اقتراع توضع في السفارات والقنصليات اللبنانية المنتشرة في العالم، وبحيث ينتخب أيّ لبناني مغترب للمرشحين عن الدائرة المسجّل فيها قيد نفوسه، وبين من يدعو إلى انتخاب المغترب لمرشح عن الاغتراب، وبحيث يتم استحداث ستة مقاعد عن ست قارات، واللبنانيين المغتربين المسجّلين في هذه القارة ينتخبون أحد مرشحيها. وتفسيراً لهذا اللغط القائم، فإنّ قانون الانتخاب النافذ حالياً هو الذي يعتمد استحداث ستة مقاعد لست قارات، على أن يقوم اللبنانيون المغتربون الذين سجّلوا للانتخاب في هذه القارة أو تلك باختيار أحد المرشحين عن تلك القارة، وهكذا دواليك. بمعنى آخر، اللبنانيون المغتربون الذين سجّلوا في السفارات في القارة الأوروبية على سبيل المثال، ينتخبون في القنصيات والسفارات المعتمدة في القارة لأحد المرشحين عن القارة، وهكذا في بقية القارات. غير أنّ القانون لم يبيّن كيف سيصار إلى توزيع التمثيل الطائفي والمذهبي لهذه المقاعد، بمعنى آخر، المقعد المعتمد لقارة أورويا لأي طائفة يُعطى، والمقعد المعتمد لقارة آسيا أو أميركا أو غيرها لأي طائفة يُعطى؟ وهكذا، وبالتالي فإنّ الغموض هذا فتح نقاشاً وجدالاً يكاد يكون عقيماً ويعطّل الانتخابات. في مقابل ذلك تقدّم عدد من النوّاب باقتراح قانون لتعديل قانون الانتخاب بحيث يتمّ السماح للمغتربين الذين سجّلوا للاقتراع بالمشاركة وانتخاب من يريدون من المرشحين في القنصيات والسفارات المعتمدة ولكن للمرشحين الذين ترشّحوا عن الدائرة التي سجّل قيدهم فيها. على سبيل المثال المغترب الناخب المسجّل قيده في بيروت ينتخب المرشحين عن بيروت وفق القانون الانتخابي، كما لو أنّ السفارة أو القنصلية في أيّ من القارات بمثابة قلم اقتراع، شرط أن يكون قد سجّل للانتخاب في الوقت المخصّص وهو بالمناسبة ينتهي في تشرين الثاني. هذا التبيان والخلاف على انتخاب المغتربين بين القوى السياسية والكتل النيابية فتح نقاشاً حادّاً ويكاد يكون عقيماً بينها لأنّها تدرك أنّ المعركة الانتخابية بالنسبة لها على الصوت الواحد أو كما يقال على "المنخار"، وهي تدرك أيضاً أنّ الصوت المغتربي صوت مرجّح كان له تأثيره القوّي في انتخابات العام 2022، فبعض النوّاب نجح بأصوات المغتربين، وبعض الذين لم يحالفهم الحظ كان السبب في خسارتهم مشاركة المغتربين، وتظنّ بعض القوى السياسية أنّ الناخبين في الخارج غير أحرار في ممارسة حقّهم الانتخابي، وبالتالي تفضّل تخصيص ستة مقاعد للمغتربين حتى لا يكون تأثيرهم على 128 مقعداً، وفي طليعة الرافضين لتعديل القانون هو رئيس المجلس النيابي نبيه بري ومعه حزب الله وبعض القوى السياسية الأخرى، بينما تطالب قوى أخرى في مقدّمها القوات اللبنانية بتعديل القانون بحيث يصبح بإمكان المغتربين المشاركة بانتخاب كلّ النوّاب وليس ستة نوّاب فحسب. هل يهدّد هذا الجدال والنقاش إجراء الانتخابات ويفرض تأجيها؟ رئيس الجمهورية جوزيف عون أكّد أكثر من مرّة على ضرورة إجراء الانتخابات في وقتها الدستوري، وكذلك شدّد رئيس الحكومة نوّاف سلام، وكذلك رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، غير أنّ الأخير يرفض دعوة المجلس النيابي لعقد جلسة لمناقشة أي اقتراح قانون يدعو لتعديل القانون الانتخابي حتى يتيح التعديل مشاركة المغتربين بانتخاب كلّ النوّاب، ويتمسك بإحالة كلّ اقتراحات القوانين للنقاش في اللجان أولاً ومن ثمّ إحالتها إلى الهيئة العامة وهو ما ترفضه بعض الكتل النيابية على اعتبار أنّها تقدّمت باقتراح قانون ياخذ صفة "المعجّل" بينما الاقتراحات الاخرى لم تأخذ هذه الصفة، كما ترفض إحالة الاقتراح على اللجان، بل تدعو إلى طرحه على الهيئة العامة وهو ما يرفضه رئيس المجلس، وبالتالي فإنّ النقاش يحتدم وصولاً إلى مقاطعة بعض الكتل النيابية والسياسية جسلة المجلس يوم الثلاثاء من ضمن إصرارهم على ضرورة طرح اقتراح القانون على الهيئة العامة لتعديل القانون الانتخابي وهذا لم يحصل حتى الآن بل على العكس يهدّد بنسف الاستحقاق الانتخابي. نعم مصير الانتخابات النيابية على المحكّ سواء لناحية الخلاف العميق والعقيم حول القانون ومشاركة المغتربين أو لناحية التهديدات الإسرائيلية التي تزداد يومياً، لتبقى الأيام والأسابيع المقبلة لتجيب على هذه الأحجية!!

حول دعوة لبنان إلى التفاوض مع الاحتلال!
العدد 1686 /22-10-2025 د. وائل نجم

في كلمته أمام "الكنيست الإسرائيلي" وفي لقاء شرم الشيخ أشاد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بالرئيس جوزيف عون، ودعا لبنان إلى بدء مفاوضات مع كيان الاحتلال الإسرائيلي من دون أن يحدّد النقاط أو العناوين التي يمكن أن يدور حولها أو يطالها التفاوض.

عن زيارة وزير الخارجية السورية إلى بيروت
العدد 1685 /15-10-2025 د. وائل نجم

عشرة أشهر بالتمام والكمال مضت على الحكم السوري الجديد في دمشق حتى قرّر إيفاد أول شخصية رفيعة المستوى إلى بيروت، حيث وصل إلى العاصمة وزير الخارجية السورية، أسعد الشيباني على رأس وفد سورية كبير يوم 10/10/2025، هذا علماً أنّ المسافة بين دمشق وبيروت لا تتجاوز مسافة ساعة سفر بالسيّارة في حيث طاف الشيباني عواصم القرار بدءاً من واشنطن ونيويورك وصولاً إلى موسكو مروراً بباريس وبرلين فضلاً عن عواصم الأشقاء في الرياض والدوحة والقاهرة وأنقرة وغيرها، فلماذا تأخرت زيارة المسؤول السوري؟ وماذا حمل معه فيها؟ الحكم السوري الجديد في سورية رسم لنفسه أولوية قبل كل شيء التركيز على فرض الاستقرار في البلد، والعمل على رفع العقوبات والحصار الذي كان مفروضاً على سورية أيّام النظام البائد، وإعادة تشكيل الدولة ومؤسساتها من جديد، وبالتالي فقد انصبّ جهده خلال الشهور الماضية على هذه الاستحقاقات من دون أن يعني ذلك عدم الاهتمام أو الاكتراث للعلاقات مع دول الجوار العربي، وفي المقدمة منها لبنان، ولعلّ هذا ما جعل الزيارة تتأخّر إلى هذا الوقت، من دون أن يكون لدى دمشق وقيادتها الجديدة أيّ موقف سلبي تجاه لبنان، وإن كان لديهم مأخذاً على بعض القوى والجهات السياسية اللبنانية التي انخرطت بالدفاع عن النظام البائد، من دون أن يشمل ذلك لبنان الدولة أو الشعب الذي وقف موقفاً مشرّفاً خلال سنوات الثورة إلى جانبها وإلى جانب الشعب السوري؛ وقد أكّد على هذه المعاني الرئيس السوري، أحمد الشرع، أكثر من مرّة خلال لقائه واستقباله مسؤولين لبنانيين خلال الشهور السابقة. وبالعودة إلى زيارة الوزير الشيباني فقد كانت زيارة إجرائية ركّزت على ملفات تنفيذية تتصل بملف الحدود والموقوفين السوريين في السجون اللبنانية وملف اللاجئين بشكل أساسي، والتقى الوزير خلالها رئيسي الجمهورية والحكومة ووزير الخارجية، وأسقط من جدول لقاءاته رئيس المجلس النيابي نبيه برّي علماً أنّه أبرز شخصية سياسية رسمية في لبنان ولكنّ موقعه ليس تنفيذياً إنّما تشريعي، وهنا ربّما تكون الرسالة السياسية المخفية التي أرادت الحكومة السورية تسجيلها، ومفادها أنّها كما لا تتعامل مع شخصيات سياسية خارج إطار المواقع الرسمية، فهي لن تتعاطى حتى مع شخصيات رسمية خارج إطار الملفات المطروحة، وربما يكون هذا العنوان الذي قاربت فيه أو اعتمدته لشرح حيثيات الزيارة، ولكن يبدو في عمق هذا الإجراء يكمن موقف سياسي تجاه الرئيس برّي ليس على مواقفه السابقة من النظام السوري البائد ودعمه السياسي اللامحدود له، ولا على انتمائه وتمثيله للطائفة الشيعية في لبنان، إنّما على دعمه وتغطيته لمواقف وسياسات حزب الله في البلد حتى بعد إسقاط النظام السوري البائد، وحتى بعد كلّ المتغيّرات التي حصلت في المنطقة، هذا علماً أنّ الرئيس الشرع تحدث عن طي صفحة الماضي مع حزب الله بالنظر إلى تحدّيات المرحلة الحالية والمستقبلية، سواء بالنسبة للبنان أو بالنسبة لسورية. لقد حمل الوزير السوري ملفات مهمّة إلى لبنان ووضع الكرة الآن في ملعب المسؤولين اللبنانيين. أعلن عن إلغاء المجلس الأعلى السوري اللبناني الذي كان قد تشكّل زمن الوجود السوري في لبنان، والذي كان بديلاً عن العلاقات الطبيعية بين البلدين. وأعلن الوزري السوري الوقوف على مسافة من كلّ اللبنانيين، وأشار إلى أنّ الكثير من السياسيين اللبنانيين يرغبون في زيارة دمشق ولقاء القيادة السورية التي تفضّل التعامل من دولة إلى دولة، ولا تريد زمن الزبائنية في العلاقة بين الجانبين. أكّد وشدّد على عدم التدخّل في الشأن الآخر، وبحث الملفات التي جاء من أجلها ووعد بالايجابية الكامل من أجل إيجاد الحلول لها. كما حمل دعوة رسمية من الرئيس الشرع للرئيس جوزيف عون لزيارة سورية، وتأكيد حرص الرئيس الشرع على أفضل العلاقات مع لبنان، والشيء بالشيء يُذكر في هذا السياق، حيث سُجّل على رئيس الجمهورية موقف غير موفّق فيه عندما استقبل قبل زيارة الوزير الشيباني بأيام قليلة (48 ساعة) رئيس حزب التوحيد اللبناني وئام وهّاب، في القصر الجمهوري وهو المعروف بمواقفه السلبية من الرئس السوري والنظام الجديد، وتصل الأمور معه على مواقع التوصل الاجتماعي إلى حدود شتم وسبّ الرئيس السوري حتى أنّه نُقل أنّ القضاء السوري ادعى عليه وبات مطلوباً للحكومة السورية؛ فبدت زيارة وهّاب إلى القصر الجمهوري بتوقيتها، واستقبال الرئيس له كما لو أنّها وقبل استقبال الوزير الشيباني كما لو أنّها تحمل رسالة سلبية للحكومة السورية والنظام الجديد في دمشق وليس في ذلك أيّ مصلحة للبنان، خاصة وأنّه لم يبدر من النظام الجديد أيّ موقف سلبي تجاه لبنان حتى الآن. لبنان أمام فرصة تاريخية لإعادة نسج علاقته مع سورية بعيداً عن المناكفات والمواقف المسبقة والسياسات الصبيانية، والكرة الآن في ملعب لبنان فإمّا أن يقوم بواجبه وفق ما تتطلبه سياسة الدول، وإمّا أن يشرّع الباب من جديد لتدخلات خارج إطار الدولة ومفهومها ومؤسساتها.

عامان على الطوفان.. حكاية الصمود وتقرير المصير!
العدد 1684 /8-10-2025 د. وائل نجم

مرّ عامان على انطلاق معركة "طوفان الأقصى" حيث سطّرت المقاومة الفلسطينية صفحة من صفحات العزّ والبطولة من خلال اقتحامها لمواقع ومعاقل قوات الاحتلال الإسرائيلي في غلاف غزّة، وتمكّنت من السيطرة على مساحة تقدّر بضعفي مساحة القطاع المحرّر وبلغ عناصر المقاومة مواقع سرّية للاحتلال خلال ساعات قليلة وبما أكّد أنّ هزيمة كيان الاحتلال وتحرير فلسطين ليس مستحيلاً، وبما سدّد لهذا الكيان ضربة قويّة وقاسية هي بمثابة المسمار الأخير في نعش هذا الكيان وهو ما سيتأكّد للجميع قريباً. عامان مرّا والمقاومة الفلسطينية صامدة تقاوم وتواجه ليس "الجيش الإسرائيلي" فحسب، إنّما جيوش دول عديدة وضعت نفسها وخبرتها وآلتها الحربية في تصرّف قوات الاحتلال، وقد صمدت المقاومة وواجهت وتحدّت كلّ هذه الجيوش، ولم تضعف ولم تتراجع على الرغم من حجم المجازر التي ارتكبها الاحتلال بحقّ المدنيين، وبحقّ البنية التحتية المدنية، وما زالت ثابتة ولم تعط للاحتلال فرصة تحقيق أهدافه التي رفعها منذ بداية عدوانه على غزّة، فما زالت تحتفظ بالأسرى، وما زالت تحكم القطاع، وما زالت تدير المفاوضات غير المباشرة باقتدار، وما زالت تربك الحسابات الإسرائيلية وتبدّد وهمهم في إمكانية القضاء عليها. ولكن على الرغم من كلّ ذلك فما زال من يعتقد أنّ المقاومة الفلسطينية هُزمت في هذه المواجهة، وأنّه عليها إلقاء السلاح والخضوع لشروط الاحتلال الذي لم يستطع أن يحقّق بالقوّة والمجازر والدعم الخارجي شيئاً سوى الخيبة، وهنا لا بدّ من التذكير أنّ نتائج الحروب والمعارك لها معايير محدّدة بها يمكن معرفة مدى النصر والهزيمة. على المستوى السياسي الخارجي، ولأول مرّة يجري عزل كيان الاحتلال الإسرائيلي في العالم وقد بدا ذلك واضحاً عندما صعد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو على منصة الأمم المتحدة فخرجت معظم الوفود ورفضت الاستماع إليه في رسالة تعبير واضحة عن عزل كيانه، فضلاً عن ملاحقته هو شخصياً مع بعض فريقه الحكومي أمام المحاكم الدولية بجرم ارتكاب جرائم حرب. وفي موازاة ذلك تابعنا اعتراف أكثر من مئة وخمسين دولة في العالم بدولة فلسطين وهو ما يفشل كل مشاريع "إسرائيل" في الضمّ والتهويد والتوسّع ويعيق هذه المشاريع الإسرائيلية الطموحة. وعلى المستوى السياسي الداخلي الإسرائيلي، فقد عمّقت معركة "طوفان الأقصى" الخلاف الداخلي الإسرائيلي وصولاً إلى اتهامات بالخيانة واستغلال المنصب والملاحقات القضائية وتفتيت المجتمع الإسرائيلي، وكلّ ذلك سيكون له تأثيره الحالي والمستقبلي على كيان الاحتلال. أمّا على المستوى السياسي الفلسطيني، فقد عرّت معركة "طوفان الأقصى" اتفاقات التسوية وأوهام السلام مع الاحتلال، وكشفت السلطة الفلسطينية التي تنسّق أمنياً معه، كما كشفت مواقف العديد من الأطراف العربية التي كانت تسير في ركب التطبيع، ويمكن القول إنّها أفشلت هذا المسار، خاصة عندما دفعت قادة كيان الاحتلال إلى الاعتراف بنوياهم لناحية إقامة "إسرائيل الكبرى" من النيل إلى الفرات. على مستوى الخسائر الاقتصادية، فإنّه مما لا شكّ فيه أنّ حجم الدمار الذي ألحقته قوات الاحتلال بقطاع غزة كبير جداً، وبالتالي فإنّ كلفة الإعمار كبيرة أيضاً؛ غير أنّ الخسائر التي لحقت بكيان الاحتلال الإسرائيلي كبيرة أيضاً وربما تفوق بأضعاف حجم الخسائر الاقتصادية التي لحق بالقطاع، وقد يستغرب البعض هذا الكلام، ولكن التركيز قليلاً على حجم خسائر كيان الاحتلال على مستوى خسائر الدبابات والآليات، وكلفة الطلعات الجويّة للطائرات، وتوقف المطارات والموانئ، وحجم الأضرار التي أصابت مدن إسرائيلية خلال المواجهات وإطلاق موجات صاروخية من القطاع أو من خارجه، كل ذلك قد يفوق حجم الخسائر الاقتصادية للقطاع. على مستوى الخسائر البشرية في الأرواح، تمكّنت قوات الاحتلال وبفضل آلتها الحربية المتطوّرة التي ارتكبت المجازر والإبادة الجماعية، من تكبيد الشعب الفلسطيني خسائر كبيرة وغالية وثمينة حيث بلغت أعداد الشهداء عشرات الآلاف، والجرحى مئات آلاف الجرحى، والمهجّرين بمئات الآلاف أيضاً، ةهذه كلفة باهظة وكبيرة. غير أنّ المقاومة الفلسطينية ألحقت أيضاً بقوات الاحتلال خسائر بشرية كبيرة لأول مرّة في تاريخ المعارك والمواجهات بين قوات الاحتلال والجيوش العربية، فقد اعترفت قوات الاحتلال بمقتل وجرح آلاف الجنود، فضلاً عن الانكسار النفسي المعنوي لديهم حيث لجأ المئات منهم إلى الانتحار. إلى ذلك فإنّ طبيعة الحروب هي أن يسقط فيها القتلى والجرحى والدمار، وقد تكون الكلفة فيها عالية أو قليلة ولكن يبقى الأبرز فيها هو النتائج التي تستقر عليها في النهاية، وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى تقديم بعض الشعوب الملايين من أبنائها في معركة التحرير من الاحتلال كما في حالة الشعب الجزائري، وقد نال في نهاية المطاف استقلاله وتمكّن من طرد الاحتلال من الجزائر. الأبرز بعدعامين على انطلاق معركة "طوفان الأقصى" أنّ المقاومة الفلسطينية ما زالت صامدة في الميدان، وأنّ الاحتلال يضغط عليها من خلال استهداف المدنيين لإرغام المقاومة على تقديم التنازلات. كما وأنّ من نتائج هذه المعركة أنّ كيان الاحتلال بدأ يفقد الدعم الخارجي تدريجياً، والأهمّ أنّ فكرة الإيمان بالهجرة إلى "إسرائيل" نسفت في أصل وجودها وبالتالي فَقَدَ الاحتلال مبرّر وجوده، وبالتالي فإنّ أيامه لم تعد طويلة حتى لو استمرّ بمجازره بحقّ المدنيين. بهذه المعاني فإنّ معركة "طوفان الأقصى" دقّت المسمار الأخير في نعش كيان الاحتلال، ويبقى سقوطه وانهياره مجرد وقت. د. وائل نجم

خطة السلام وصفة استسلام!
العدد 1683 /1-10-2025 د. وائل نجم

توّج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لقاءاته على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك بإعلان خطته لما سمّاه السلام وإنهاء الحرب والعدوان على غزة، وذلك خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس وزراء كيان الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، سبقه لقاء مشترك بين ترامب ورؤساء ووزراء مثّلوا عدداً من الدول العربية والإسلامية، وتضمّنت خطة ترامب لـ "السلام" التي نشرها البيت الأبيض عشرين بنداً شدّدت بشكل أساسي على إنهاء الحرب وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، وإلقاء السلاح واستسلام قادة فصائل المقاومة وعناصرها والتخلّي عن المطالبة بالحقوق الفلسطينية أو الخروج من غزة إلى أيّ بلد آخر في العالم، كما تضمّنت الخطّة انسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة بشكل متدرّج مع الاحتفاظ ببعض النقاط فيه دون تحديد مهل زمنية، وتشكيل مجلس حكم دولي برئاسة ترامب وتكليف رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، لاحقاً حاكمية القطاع مع شخصيات فلسطينية تكنوقراط مستقلّة، وتشكيل قوة أممية عربية إسلامية لإرساء النظام في القطاع فضلاً عن التعهّد بإدخال مساعدات إنسانية للسكّان، والبدء في إعادة الإعمار بشكل تدريجي، وتضمّنت الخطّة أيضاً تعهداً أمريكياً بعدم ضمّ الضفة الغربية إلى كيان الاحتلال، فيما لم تتضمّن الخطّة بشكل صريح على إقامة دولة فلسطينية مستقلّة وعاصمتها القدس، وإن كانت تضمّنت الحديث عن مسار يفضي لاحقاً إلى قيام دولة فلسطينية ولكن من دون الحديث عن مهل زمنية وتواريخ لكلّ ذلك. إضافة إلى ينود أخرى. رئيس وزراء كيان الاحتلال الإسرائيلي أعلن موافقته على الخطّة ورهن التنفيذ بموافقة قوى المقاومة الفلسطينية حيث سأل أكثر من مرّة عن قبول "حماس" لهذه الخطّة، والموقف فيما لو رفضت. بينما رحّبت دول عربية وإسلامية بالخطّة وأبدت استعدادها للتعاون مع ترامب في إنجاحها، غير أنّها سرعان ما اكتشفت وأعلنت أنّ ما جرى الحديث عنه والاتفاق عليه مع ترامب في اللقاء الواسع المشترك الذي انعقد في وقت سابق جرى إدخال تعديلات عليه بما يوافق الرؤية الإسرائيلية لإنهاء الحرب، أو ربما يتوافق ويتطابق معها، كما لو أنّها تريد القول إنّ الخطّة المعلنة مختلفة في بعض بنودها عن البنود التي تمّ الاتفاق عليها، وبالتالي فإنّها ربما أرادت أن تقول بطريقة غير مباشرة إنّها غير موافقة على الخطّة. من جهتها المقاومة الفلسطينية وفي ردّ سريع وقبل دراسة بنود الخطّة بشكل تفصيلي وهادئ، رفض الأمين العام للجهاد الإسلامي زياد نخالة الخطّة، واعتبرها ورقة شروط استسلام تريد منه الولايات المتحدة الأمريكية إعطاء "إسرائيل" بـ "السلام" ما لم تأخذه بالحرب، بينما قالت حماس إنّها استلمت الخطّة وأنّا ستعكف على دراستها بشكل تفصيلي ومن ثمّ سترد عليها، في وقت أعطى الرئيس ترامب حماس مهلة أربعة أيام لقبول الخطّة كما هي دون أيّ تعديل أو رفضها، وهدّد بأنّ "إسرائيل" ستفعل ما يجب فعله إذا ما رفضت حماس الخطّة. ربّما يكون ترامب معنّياً بصناعة السلام وإنهاء الحرب، إذا ما أحسّنا الظنّ بأقواله وتعهداته، وربّما يكون متواطئاً مع كيان الاحتلال ويبحث عن مخرج له يؤمّن له تحقيق أهداف عدوانه على غزّة، ولعلّ هذا هو الأرجح، وبالتالي فهو يريد أن يفرض على المقاومة الفلسطينية حلولاً على حساب حقّ الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه وإقامة دولته وتقرير مصيره، وعليه فإنّ خطّة ترامب للسلام، وبغضّ النظر عن نواياه من ورائها هي وصفة واضحة للاستسلام وإلقاء السلاح والتسليم بالشروط الإسرائيلية والتخلّي عن حقّ إقامة دولة فلسطينية أو إطلاق المعتقلين الفلسطينيين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، وهذا ما يستحيل على المقاومة الفلسطينية القبول به بعد أن دفعت أثماناً غالية وتمكّنت من الصمود بوجه الآلة الإسرائيلية ومنعتها من تحقيق أهداقها على مدى عامين من الصمود والتضحيات وتكبيد الاحتلال خسائر فادحة مادية ومعنوية وسياسية وكان آخرها مشهد عزلة نتنياهو في الجمعة العامة للأمم المتحدة. خطّة ترامب للسلام وصفة استسلام واضحة قد تفتح المنطقة على غير ما يشتهيه ترامب، وقد تشعل مزيداً من الحروب خاصة وأنّ نتنياهو وفريقه في السلطة والحكومة يطمحون لإقامة "إسرائيل الكبرى" من الفرات إلى النيل ويرون أنّ الفرصة مؤاتية لذلك في هذه المرحلة.

دولة فلسطين وعزلة كيان الاحتلال
العدد 1682 /24-9-2025 د. وائل نجم

أكثر من مئة وأربعين دولة في العالم اعترفت بالدولة الفلسطينية بعضها تُعتبر حليفة للولايات المتحدة الأمريكية ومن أبرزها فرنسا وبريطانيا وكندا في رسالة واضحة واعتراض واضح لكيان الاحتلال الإسرائيلي وسياساته في فلسطين وتجاه المنطقة، ورفضاً لسياسات التهجير و"التطهير العرقي" والبلطجة السياسية التي يمارسها الاحتلال. في موازاة هذا الاعتراف على الرغم من الرفض الأمريكي له حيث مُنع رئيس السلطة الفلسطينية من الحضور إلى الأمم المتحدة لإلقاء كلمة فلسطين أمام الجمعية العامة، ازدادت عزلة كيان الاحتلال على المستوى العالمي حيث تبدّى وظهر ذلك بشكل واضح عندما انسحبت معظم الوفود العالمية من قاعة الأمم المتحدة عندما اعتلى رئيس وزراء كيان الاحتلال المدان أمام محكمة الجنايات الدولة بتهم ارتكاب مجازر حرب وإبادة جماعية، بنيامين نتنياهو، عندما اعتلى المنصّة لإلقاء كلمة كيانه. من الواضح أنّ العالم ضاق ذرعاً بتصرّفات كيان الاحتلال، ربما ليس تضامناً مع الشعب الفلسطيني ولا حبّاً به، ولا اعترافاً بحقوقه، خاصة تلك الدول المعروفة بأطماعها وماضيه وتاريخها القائم على الاحتلال والتحكّم بمصير المنطقة، ولكن هذا العالم ضاق ذرعاً بكيان الاحتلال لأنّه رأى في سياساته وأطماعه وخططه ما يُفسد على تلك الدولة وذاك العالم برامجه وأطماعه وخططه؛ ضاق ذرعاً لأنّ كيان الاحتلال راح يفكّر بالتوسّع لإقامة "إسرائيل الكبرى" التي إذا ما تمكّن من إقامتها فستتحكّم بمصير الكثير من الدول من خلال التحكّم بمصير جزء كبير من النفط والغاز فضلاً عن الممرات البحرية والجوية والبرّية التي تتحكّم بدورها بطرق التجارة الدولية. وربما ليس مهمّاً الخلفية التي جعلت الكثير من دول العالم تندفع للاعتراف بدولة فلسطين، وبالطبع لكلّ منها دوافعه وليس هناك دافع واحد للجميع، ولكنّ المهمّ أنّ هذا الاعتراف أعطى قوّة دفع للقضية الفلسطينية، ووسّع العزلة الدولية التي بدأت تُفرض على كيان الاحتلال، وأكّد أنّ حلم "إسرائيل الكبرى" غير قابل للتحقّق، أو على أقلّ تقدير دونه عقبات وصعوبات كثيرة وكبيرة. الاعتراف بالدولة الفلسطينية يعني في علم السياسة أنّ فلسطين هي أرض وشعب ونظام، وهذا يعني رفض سياسات كيان الاحتلال ورفض عمليات الضمّ التي يقوم بها أو يخطط لها في الضفة الغربية أو القدس لأنّها جزء من أرض الدولة الفلسطينية. الاعتراف بالدولة الفلسطينية يفتح الطريق لحلّ يقوم على أساس حلّ الدولتين الذي اقترحته الدول العربية في العام 2002 في قمّة بيروت. غير أنّ الاعتراف بالدولة الفلسطينية دون إرفاق ذلك بإجراءات دولية عالمية لحماية هذا الاعتراف أو لتجسيده فعلياً على أرض الواقع يبقى ناقصاً ويبقى دون طموحات الشعب الفلسطيني بل كل الشعوب الطامحة للحرية والمساندة والمؤيدة لها، وبالتالي فإنّ غياب الإجراءات الرادعة للاحتلال، والداعمة لإقامة الدولة الفلسطينية سيتيح للاحتلال الاستمرار في جرائمه ومضيه في توسيع نفوذه على حساب دول المنطقة وعلى حساب القوانين الدولية وهذا بدوره ما قد يؤسّس لنزاعات وحروب جديدة لا تنتهي فصولاً.

قمّة الدوحة وتحدّي مواجهة الأخطار المحدقة بالأمّة
العدد 1681 /17-9-2025 د. وائل نجم

بعد العدوان الإسرائيلي على منازل ومكاتب قادة في حركة حماس من أعضاء وفد التفاوض في العاصمة القطرية الدوحة بهدف قتلهم والتخلّص منهم ومن عملية التفاوض من ناحية، وبهدف فرض وتكريس قواعد جديدة في "الشرق الأوسط" ودول جوار فلسطين المحتلة من ناحية ثانية بحيث يصبح كيان الاحتلال الإسرائيلي صاحب الكلمة الفصل واليد الطولى في المنطقة، والمقرّر لسياساتها وأوضاعها فيما تتحوّل بقية دول وحكومات المنطقة إلى مجرد أدوات عنده ولديه تقوم بما يمليه عليها وما يؤمّن له المصالح؛ بعد هذا العدوان، ومع استشعار خطورة المرحلة المقبلة، تداعت الدول العربية والإسلامية، من أعضاء جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، إلى قمّة مشتركة انعقدت في العاصمة القطرية الدوحة التي تعرّضت للعدوان، وقد حضر في القمّة قادة ورؤساء وملوك وأمراء من الصفّ الأوّل، كدليل على خطورة المرحلة، وصعوبة التحدّي، وصلافة العدو. فهل حقّقت هذه القمّة ما كانت ترنو إليه؟ أو لنقل ما كانت ترنو إليه بعض الحكومات والدول؟ أو بشكل أدقّ ما كانت ترنو إليه الشعوب العربية والإسلامية؟ نحن في صفّ الشعوب التي تتطلّع إلى مساعدة الشعب الفلسطيني المنكوب، وتتألّم لألمه، وتحزن لحزنه، وتستشيط غضباً لما يصيبه من جرائم يرتكبها الاحتلال بحقّ الأطفال والنساء والشيوخ دون أدنى رأفة أو رحمة أو احترام لمواثيق وحقوق إنسان أو كرامة بني البشر، نحن الشعوب كنّا ننتظر من هذه القمّة غير الذي بلغنا من قراراتها، ربما صُدمنا أو لأقل صُدم الكثير منّا عندما سمع وعرف تلك القرارات التي رآها لا توازي ولا تساوي حجم التحدّيات التي باتت حاضرة ومُحدقة ليس بالشعوب والمنطقة وثرواتها، بل باتت مٌحدقة بالحكومات والأنظمة أيضاً، فهذا رئيس حكومة كيان الاحتلال لم يعد يكترث لأيّ منهم، بات يحذّر، يهدّد، يتوعّد، ثم يضرب دون شفقة أو رحمة أو احترام للعهود والمواثيق والمعاهدات التي عقدها أسلافه في قيادة هذا الكيان مع تلك الحكومات والأنظمة. نحن الشعوب كنّا ننتظر من القمّة الكثير الكثير ربما لأنّنا ما زلنا على فطرتنا وبساطتنا التي لا تفقه موازين القوى وكيف هي مائلة لصالح العدو بفضل الدعم اللامحدود واللامتناهي من الغرب من أجل بقائه واستمراره وتحكّمه بالمنطقة وأهلها وشعوبها ودولها وحكوماتها. وربما لأنّنا لا نعرف معنى الواقعية السياسية التي تكثر فيها الحسابات فيتحوّل الإنسان معها إلى حالة من الجبن والانكفاء بدل الحكمة والرزانة والحصافة واتخاذ القرار المطلوب في أعقد وأصعب لحظة بحيث يتمّ فيها السير على حافة الهاوية. وعلى سيرة الهاوية، فإذا ما استمرّ هذا الإفراط في الخضوع للواقعية السياسية فإنّ الأمّة تكاد تنزلق إلى قعر الهاوية التي يخافها أصحاب القرار تحت عنوان النجاة بأكبر قدر ممكن من السلامة والمكاسب. وربما لأنّنا نحن الشعوب نقيس الأمور بغير مقياس العقل أحياناً فلا نخضع لتلك المعادلات الدنيوية، بل نلجأ إلى قياس الأمور والمستجدات بمقياس القلب الواثق بأنّ قدر المظلوم الانتصار، وقدر الظالم الإنكسار والهزيمة ولو بعد حين، ولذلك لا نقيم أحياناً وزناً للواقعية السياسية، ونتمسك بالغيبيات التي تمدّنا بحالة من الصبر والصمود والثبات الكفيل بقلب المعادلات رأساً على عقب، فما النصر في صراعات الأمم والشعوب سوى "صبر ساعة"، و"إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون". بهذا المعنى فإنّ قرارات القمّة المشتركة لم تكن ما تمنّتها الشعوب العربية والإسلامية التي أدركت هذا التحدّي الإسرائيلي لكلّ العالم العربي والإسلامي وليس لقطر فقط أو للخليج، ولذلك كانت تأمل أن تكون القرارات على مستوى هذا التحدّي الذي يضع حدّاً لهذه الغطرسة الإسرائيلية على المنطقة، ولهذه المجزرة المروّعة بحقّ الأطفال والنساء والشيوخ والعزّل في قطاع غزة. أمّا وقد كانت القرارات تمنيّات أكثر منها آليات عمل وتنفيذ خطط وبرامج وقرارات حقيقية تجعل المعتدي ومن يقف خلفه يعيد حساباته، ويفكّر ألف مرّة قبل أن يقدم على اتخاذ أيّة خطوة عدوانية أخرى، فإنّ ذلك سيجعله يعيد الكرّة ويجدد الاعتداء على أيّ منطقة أو مدينة أو عاصمة أخرى، إنّه يعيد تشكيل المنطقة من جديد وفق أهوائه ومصالحه، ولكن ما لا يدرك كلّه لحسابات واقعية وتداخل المصالح يمكن أن يُدرك جلّه أو بعضه لحساب التحدّيات التي ما زال بالإمكان إسقاطها إذا ما كان لدى الفاعلين وأصحاب القرار نيّة جدّية حقيقية في إطلاق المواجهة لإسقاط تلك التحدّيات، وبالتالي إنقاذ المنطقة من هذا التغوّل الذي يريد التهامها بكلّ ما ومن فيها.

عن رسائل العدوان الإسرائيلي على الدوحة
العدد 1680 /10-9-2025 د. وائل نجم

تجاوز الكيان الإسرائيلي كلّ القواعد والمعايير المعمول بها في الأعراف والعلاقات الدولية عندما شنّ ضربات جويّة عنيفة من طائرات حربية استهدفت منازل ومكاتب لمسؤولين في حركة حماس من الوفد الذي يقود التفاوض غير المباشر مع "إسرائيل" لوقف إطلاق النار في غزة وإطلاق سراح الأسرى الإٍسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، والمعتقلين الفلسطينيين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، في العاصمة القطرية الدوحة. فالهجوم الذي أتى من دون سابق إنذار شكّل عدواناً واضحاً وهمجياً على دولة قطر وسيادتها بشكل أساسي، وجريمة نكراء بحقّ وفد مدني يقوم بالتفاوض مع المعتدي (كيان الاحتلال الإسرائيلي) من أجل وقف إطلاق النار وإطلاق الأسرى وفك الحصار عن غزّة؛ وضرباً لكلّ المعايير والقوانين الدولية ولكلّ مبادئ العلاقات الدولية واحترام سيادة الدول؛ ومحاولة جدّية وجديدة لتكريس أعراف جديدة في هذه العلاقات تقوم على مبدأ حقّ القوّة وليس قوّة الحقّ، مبدأ البطش وشريعة الغاب حيث تكون للقوّة العسكرية الباطشة حقّ التدخّل وفرض ما تريد حيث تريد من دون أيّ اعتبار لمنظومات الحقوق المعترف بها دولياّ؛ ببساطة الهجوم أراد فرض منظومات جديدة في عالم جديد يقوم على البطش والسيطرة والقوّة. فماذا أراد كيان الاحتلال من هذا العدوان على وجه الدقّة؟ أول هدف أراده كيان الاحتلال من هذا الهجوم هو تكريس هيمنة "إسرائيل" على المنطقة بأكملها من نهر النيل في مصر إلى نهر الفرات في العراق ومن ضمنها منطقة الخليج، انعكاساً لخطاب رئيس حكومة كيان الاحتلال بنيامين نتنياهو الذي تحدث قبل مدّة عن "إسرائيل الكبرى" من النيل إلى الفرات، وقديكون ذلك مقدّمة لهيمنة إسرائيلية على العالم كلّه حيث تشكّل هذه المنطقة، التي يتطلّع نتنياهو إليها لإقامة "إسرائيل الكبرى"، قلب العالم بحيث أنّه من يتحّكم بها يتحكّم ويحكم العالم، ولعلّ في تصريح رئيس الكنيست الإسرائيلي بعد العدوان على الدوحة ما يؤكّد نيّة الاحتلال الإسرائيلي تكريس هذه الهيمنة حيث تحدّث رئيس الكنيسة عن كون الهجوم رسالة لكلّ "الشرق الأوسط". الهدف الثاني من وراء العدوان على الدوحة يكمن في محاولة نتنياهو القضاء على قيادة حماس وبالتالي القضاء على مسار التفاوض لوقف إطلاق النار وإطلاق الأسرى لأنّه يدرك أنّ أيّ وقف للحرب الآن يعني أمراً واحداً فقط هو خسارة نتنياهو وفشله وبالتالي فتح صفحة الحساب معه. نتنياهو لا يريد ذلك، ولا يريد أن يوقف الحرب تحقيقاً لأحلامه أولاً، وهرباً من المساءلة والمحاسبة ثانياً، ولذلك أراد قتل الوفد المفاوض لإنهاء مسار التفاوض والاستمرار في الحرب على غزة. وفي الحقيقة فإنّ العدوان يعكس حجم المأزق الذي يعيشه كيان الاحتلال بشكل عام ورئيس حكومته بشكل خاص حيث فشل في تحقيق أيّ من أهدافه في قطاع غزة على الرغم من العدوان المستمر والمتواصل على القطاع منذ قرابة عامين، وعلى الرغم من حجم التدمير والمجازر التي ارتكبها بحقّ أهل القطاع، وبالتالي فإنّ العدوان على الدوحة كشف حجم هذا المأزق حيث حاول الكيان الهروب إلى الأمام من خلال هذا العدوان. الهدف الثالث للعدوان البعث برسالة إلى دول المنطقة مفادها أنّها لن تكون بمنأى عن أي اعتداء إسرائيلي حتى لو كانت على علاقة تحالفية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكأنّ الرسالة هي للولايات المتحدة الأمريكية أكثر منها تجاه هذه الدول التي راهنت على حماية الولايات المتحدة من أي خطر يمكن أن يتهدّدها. في مقابل هذه الأهداف أظهر العدوان الإسرائيلي على الدوحة أنّ الرهان على الولايات المتحدة الأمريكية رهان خاسر، خاصة إذا كان المعتدي هو كيان الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي فإنّ دول المنطقة بعد هذا العدوان باتت مدعوة لإعادة النظر والتفكير في خياراتها لحماية مصالحها ونفسها من أخطار وأطماع الكيان الإسرائيلي، وإلاّ فإنّها ستجد نفسها أمام عدو يريد كلّ شيء وينظر إلى الآخرين على أنّهم خلقوا على هيئة البشر حتى يليقوا بخدمته، خاصة في ظل هذه الحكومة التي تحكم دولة الاحتلال. كيان الاحتلال بعد هذا العدوان بات يشكّل خطراً على العالم وليس على المنطقة العربية أو ما يُسمّى بـ "الشرق الأوسط" فحسب، وعلى العالم أن يتحرّك لوضع حدّ لهذا الخطر قبل أن يفرض قواعدة وأعرافه في نظام عالمي جديد يكون هو السيّد المطاع فيه.

الحكومة وتحدّي العبور إلى السيادة وحصرية السلاح
العدد 1679 /3-9-2025 د. وائل نجم

لعلّ الحكومة وضعت نفسها ومعها لبنان أمام تحدّي تنفيذ قرار حصرية السلاح المُتخذ في جلستي 5 و7 آب الماضي بعد رفض حزب الله بشكل أساسي، وربما المكوّن الشيعي معه سحب السلاح منه وحصره بيد الدولة وأجهزتها قبل تنفيذ الانسحاب الإسرائيلي من القرى الجنوبية المحتلة، وقبل الحصول على ضمانات بوقف الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب. لا جدال في أنّ من حقّ الحكومة التي تدير الدولة بوصفها سلطة تنفيذية اتخاذ قرار بحصرية السلاح بيد الأجهزة الأمنية والعسكرية، ولا جدال ولا نقاش في أنّ من حقّها ممارسة سيادتها على قرارها الوطني وعلى حدود الوطن، ولا جدال ولا نقاش في أنّ من حقّها اتخاذ القرار الذي تراه مناسباً طالما أنّها تتمتّع بثقة المجلس النيابي، وطالما أنّه دستورياً من ضمن صلاحياتها المنصوص عليها دستورياً. غير أنّ الحقّ والقانون والدستور شيء ومصالح الوطن والمواطنين وسياسة البلاد والعباد والإبحار بهما إلى برّ الأمان شيء آخر. بمعنى آخر، ما يمكن أن يكون صحيحاً ولا مشكلة فيه ولا غبار عليها بموجب القانون والدستور قد لا يكون كذلك بموجب السياسة والمصالح المتعلقة بالبلاد والعباد. ما يقود إلى هذا الكلام له علاقة بمجريات الأحداث والمتغيّرات التي حصلت خلال الأشهر الأخيرة أو على وجه الدقّة خلال العام 2024م في ضوء نتائج حرب كيان الاحتلال على لبنان. فكيان الاحتلال الإسرائيلي يتعامل مع هذه الحرب كما لو أنّه خرج منها منتصراً بشكل يعطيه الحقّ بفرض كلّ شروطه وبالتالي إخضاع لبنان وجعله منزوع الإرادة ومسلوب الحريّة، والحقيقة غير ذلك، لكنّها ليست انتصاراً مكتملاً لكيان الاحتلال؛ فلبنان صمد ولم يترك مجالاً للاحتلال للتوغّل داخل الأراضي اللبنانية إلى حيث يشاء ويشتهي، بل إنّ استهداف الاحتلال ظلّ قائماً حتى آخر لحظة قبل تنفيذ وقف إطلاق النار أو وقف "الأعمال العدائية"، وبالتالي فلا هزيمة كاملة لطرف، ولا نصراً ناجزاً أيضاً، وبذلك فإنّ استعجال نزع ورقة قوّة من يد المفاوض اللبناني ليس في صالح لبنان على الإطلاق، كما وأنّ الإبقاء على فوضى انتشار السلاح وعدم حصر المسؤولية في ذلك ليس في صالح لبنان أيضاً، وعليه فإنّ الحاجة أمام هذا التحدّي تصبح في كيفية الإفادة من كلّ قدرة وإمكانية يمكن أن تتوفّر للمفاوض اللبناني من أجل استخدامها في معركة تثبيت السيادة وحصرية قرار الحرب والسلم بيد الدولة، وحتى تظلّ البوصلة في اتجاه صحيح هو الاتجاه الذي يتموضع فيه المحتل. الحكومة اليوم أمام تحدّي تنفيذ قرار حصرية السلاح، وبالوقت ذاته أمام تحدّي الإفادة من السلاح ومن كلّ ذرّة قوّة متوفرة للبنان بوجه الأطماع الإسرائيلية، وبما لا يُظهر موقفها كما لو أنّها متماهية مع شروط الاحتلال أو شروط ومقترحات الوسيط الذي يتولّى الوساطة مع تبنّيه الواضح للطرف المقابل، ومن هنا فإنّ جلسة يوم الجمعة التي يُنتظر أن تستعرض فيها الحكومة مقترح قيادة الجيش لتنفيذ قرار حصرية السلاح هي جلسة في غاية الأهمية والدقّة، وتستوجب تحمّل المسؤولية تجاه لبنان واللبنانيين والمستقبل. على المقلب الآخر فإنّ تحدّي الحكومة ورفض قراراتها دون طرح البدائل المقنعة ليس فيه أدنى مصلحة وطنية، ولا حتى مصلحة لأصحابه، بل على العكس من ذلك لأنّه سيظهر كما لو أنّه بوجه بقيّة اللبنانيين، وهم بالمناسبة يشكّلون في أدنى تقدير قرابة 70% من الشعب اللبناني، وسيعطي فرصة للاحتلال لزيادة الشرخ والهوّة بين أبناء الوطن الواحد الذين يتشاركون التحدّيات والمخاطر؛ وعليه فإنّ إبداء القلق مشروع ومقبول وليس عليه أيّ تعليق أو رفض، بل على العكس فإنّ القلق ربما يساور أغلبية اللبنانيين جراء الأطماع الإسرائيلية والبرامج والخطط التي جرى الحديث عنها وتطال بقية المنطقة وليس لبنان فحسب، غير أنّ ما هو غير مشروع هو أن يتحوّل القلق والهاجس إلى أداة فتنة تطيح بالجميع. أمام هذا الواقع والمشهد المعقّد لبنان بحاجة إلى تفهّم وتفاهم بين الجميع لا يكون على حساب الوطن ولا على حساب أيّ من مكوّناته، فكما أنّ نزع عنصر قوّة من يد لبنان ليس فيه مصلحة للبنان واللبنانيين، وبالتالي فهو غير مقبول، كذلك فإنّ انتشار السلاح دون ضوابط ودون قواعد واستراتجية أمن قومي واضحة ومعروفة لكلّ اللبنانيين، ليس في مصلحة لأيّ منهم وبالتالي فهو غير مقبول أيضاً لأنّ الاحتلال سيبقى يتخذ من ذلك ذريعة وستبقى اعتداءاته متواصلة لا توفّر أحداً من اللبنانيين.

12345678910...