العدد 1406 / 25-3-2020

عبد الرحمن حللي

من الطبيعي أن يتدخل كل ذي شأن وأثر مع كل أزمةٍ تنزل بفرد أو تحيط بعموم الناس في مكان أو أمكنة من العالم، انطلاقًا من مسؤولية كلِّ مَن كان بإمكانه أن يميط الأذى عمّن لحق به، أيًا كان هذا المتأذّي، وذاك المُنْتَظَرِ دوره في إماطة الأذى، والذي تتعاظم مسؤوليته بحجم الدور الذي يمكنه القيام به، حتى إن بطء تدخله يُعَدُّ جزءًا من الضرر نفسه، بتأخيره رفعه أو السماح بمفاقمته، وهو ما يوصف بالفعل السلبي، بأن لا يفعل حيث وجب عليه أن يفعل شيئًا. هذه قاعدةٌ عامةٌ تتدرج فيها المسؤولية بحسب الأذى الواقع، من أبسطه والذي مَثَلُه إماطة الأذى عن الطريق بوصفه شعبة من الإيمان وخصلة من المعروف، وهذا الفعل البسيط نفسه، والذي يُعدُّ من الفضائل في الحالات العادية، سيكون إهمال القيام به نوعًا من الجناية أو الجريمة، فيما لو تأكد لمن أهمل إماطته أنه سيترتب عليه ضررٌ مؤكّدٌ لشخصٍ قد يعترضه هذا الأذى، ويسبب له أذى ملموسًا، كأن يترتب عليه ضرر مؤكد لطفل أو معاق، أو من يتأكد أنه لن ينتبه إليه، والقواعد والنصوص الفقهية والقانونية معروفة ومفصلة في بيان ذلك وأمثلته. ومن الأولوية والأهمية بمكان استحضارها عندما يتفاقم الأذى البسيط إلى وباء عابر للزمان والمكان والأشخاص، وتضيع في مقاربته البوصلة، فيخوض فيه الخائضون، ويهيم الناس ويهيجون، وكأن القيامة قد أزفت، لكنهم، في الآن نفسه، مخلدون إلى الأرض، تجذبهم أنانية الحياة إلى الاستئثار، ويُمَنِّيهم إلف سيطرة الإنسان وتطور العلم بخلاص آت، وأنها مسألة وقتٍ تعود فيها الأمور حيث كانت، تلك طبيعة الإنسان أن يخاف فيستأثر، ويَعْلَمَ فيتفاءل، وما بينهما تدور معارك ونزاعات ومنافسات، وتفوح معها رائحة أوبئةٍ يكاد يختفي معها الوباء الأول، أوبئة أزكمت الأنوف فأصبحت مألوفة، بل وتُنسى أوبئة أخرى من فعل الإنسان نفسه، كانت ولا تزال مستمرة ومُسْتَثْمَرَة.

ما كان أحد من الناس يتوقع أن فيروسًا ضعيفًا سيُحَوِّلُ العالم المعولم (القرية الكونية) في غضون

"يتحدّث مؤرخو الأوبئة عن ملايين من الضحايا قضوا، في مراحل مختلفة من التاريخ، نتيجة أوبئة مختلفة"أشهر إلى كيانات تزداد انعزالًا إلى أجل غير معلوم، ولا يجمعها غير العالم الافتراضي الذي أَلِفَ بدوره، بين حين وآخر، أن تهدده فيروسات أخرى تقطع تواصله، أو تخترق خصوصيته واختياراته، بما فيها السياسية والسيادية، وكلا النوعين من الفيروسات الحيوية والإلكترونية تحملان دلالاتٍ ضدية من زاويتين، فهما من جهة مؤشّران على قوة الإنسان وسيطرته بالعلم، من حيث قدرته على تصنيع كلا النوعين من الفيروسات، أو القدرة على مواجهتهما إلى حد كبير. ومن جهة أخرى، هما مؤشران على ضعف الإنسان، من حيث عجزه النسبي أو الكلي في القدرة عن صد آثارهما أو السيطره عليهما، وقدرتهما على تغيير مسارات الحياة بمختلف أوجهها. ومن زاوية أخرى، ثمّة ضدان آخران تكشف عنهما هذه الفيروسات، هما ضدان أخلاقيان، فمن جهة، العَالَمُ مَدينٌ لنبل أطباء وعلماء يبحثون ويُضحّون من أجل سلامة الإنسان وصحته وسيطرته على الأمراض والأوبئة. ومن جهة أخرى، تكشف الفيروسات نفسها عن دناءات متعدّدة المستويات يتصف بها الإنسان، بدءًا من تصنيع الفيروسات من علماء آخرين أو استثمارها ممن وراءهم، وليس انتهاء في كيفية الاستجابة الفردية والجماعية لما يقتضيه الوباء.

هذه الدلالات المتضادة التي تكتنفها الطبيعة الإنسانية ليست بالجديدة، إلا بمظاهرها وعمق آثارها، فالإنسان الحديث (من زمن الحداثة)، القوي بالعلم والتقنية، لعله أضعف من أسلافه في القدرة على مواجهة أوبئةٍ لا تقل سوءًا من غير مضادّات ونحوها، فالإنسان الحديث كما طوَّر ما يُحَسِّن من جودة الحياة، طوَّر أيضًا، في الآن نفسه، أو لزومًا النقيض، ما يقضي عليها أو يُفسدها، قصدًا لذلك أو تَبَعًا، فآثار حروب القرن العشرين ما تزال حاضرة في الأذهان، وما تزال قسمة العالم محكومةً بقدرة من يقوى على التدمير أكثر، وهم أنفسهم ما يزالون يُصَدِّرون للعالم من وسائل الرفاهية، وكذلك من وسائل التدمير، ما يعزّز سيطرتهم عليه، والعلماء أنفسهم، بمختلف تخصصاتهم، مَن يصنعون أسباب الرفاهية وإمكانات الشفاء، وكذلك الدمار، وربما الوباء أيضًا، وما كان لهم أن يفعلوا ذلك، لولا أموال ومؤسسات أعمال تسندهم أو توظفهم، وسياسات تدعم ذلك، فالعالم محكومٌ لجدليةٍ كانت وستبقى في صراع مستمر، تطور العلم المحكوم بالمال والسياسة، وهو نفسُه أهم مَن يصدر للعالم البلسم والداء في آن، لا أقصد هنا الوباء الأخير بعينه، إنما ما كشف عنه من أوبئةٍ نعيشها وألفناها، وليس أقلها الحروب العبثية المستمرة، بدءًا من عدم الحيلولة دون بدئها، ثم الاستمرار في إيقاد نارها، مع القدرة على إخمادها، والأسوأ هو التعامل اللاأخلاقي مع آثارها، وكان ضحاياها (اللاجئون) هم بمثابة الوباء الأول بالنسبة للغرب قبل ظهور كورونا، والذي من حسناته أنه خفّف من حضورهم في الإعلام.

أسئلة جوهرية كثيرة أثارتها تصريحات وردود أفعال مختلفة ظهرت في الزمن الكوروني، وهي جديرةٌ بالتأمل والنظر، ومن شأنها أن تجعل الجميع يراجع رؤاه ومنظوراته الأخلاقية تحديدًا، من زاويةٍ نقديةٍ لا تقف عند الحدث، إنما تمتد لما يكشف عنه، وإن أردنا التفصيل، فيمكن أن نتوقف

"العالم محكومٌ لجدليةٍ كانت وستبقى في صراع مستمر، تطور العلم المحكوم بالمال والسياسة، وهو نفسُه أهم مَن يصدر للعالم البلسم والداء في آن"عند أمثلة كثيرة من كل ميدان. لقد استجابت مؤسساتٌ وشخصياتٌ دينية إيجابيًا في التصدّي للوباء، وأبرزت ما تقتضيه قواعد الدين من الأخذ بما يوصي به أهل الطب والتخصص في هذا المجال، إلا أن شريحة لا بأس بها من ممتهني الوعظ الديني انخرطت في تأويل الوباء، وتحديث تأويلاته، إلى أن حلَّ بأرضها، مكذبًا ما تَقَوَّلَت به على الله من أحكامٍ على أفراد أو أمم، كما حضر التدين بقوةٍ في لفيف الحدث، بدءًا من تخصيص الرئيس الأميركي يومًا للصلاة من أجل الخلاص من الوباء، وليس انتهاء بطقوس دينية غريبة في غير مكان من العالم لمواجهة الفيروس. يحدث ذلك في دول علمانية، وتحتضن أديانًا مختلفة. على صعيد آخر، كان للكذب سوقه الرائج، على جميع الأصعدة، فكثر الخبراء والمختصون يؤولون ويفتون في الوباء، وليس حالهم بأفضل من دجّالي الدين، لكن الأسوأ هو الكذب الرسمي الذي تروجه حكومات ووسائل إعلامها، في احتقار فاضح لعقول الناس، وحقوقها في معرفة الحقائق، أما السياسيون ورجال المال، فاستجابتهم للحدث كانت محكومةً، إلى درجة كبيرة، بأثره على الاقتصاد وتفادي خسائره، حتى قورن الوباء في سوئه بآخر أزمةٍ اقتصادية، وليس بآخر أزمة إنسانية، (علمًا أن أزمات إنسانية أشد ما تزال قائمة)، وكأن المشكلة في الوباء بالنسبة للسياسي ورجال الأعمال هي خسائر الأموال لا الأرواح، ولم يغب المال في التنافس على السبق لإنتاج لقاح مضاد واحتكاره، ما يجعل سعي الأفراد إلى احتكار ما أمكن من أسباب الوقاية من المرض أمرًا بسيطًا، وإن كان غير أخلاقي ابتداء، على أن هذه الظاهرة لم تختلف بين شعوبٍ تصنف متحضرةً وأخرى متخلفة، فيما طرحت نقاشاتٌ وأسئلةٌ عمن هو أحق بالعلاج، إذا ضاقت أماكن استيعاب المرضى.

أسئلة كثيرة يطرحها وباء كورونا، ولعله إلى هذه اللحظة هو من الأقل ضحايا مقارنة بغيره، إذ يتحدّث مؤرخو الأوبئة عن ملايين من الضحايا قضوا، في مراحل مختلفة من التاريخ، نتيجة أوبئة مختلفة. ومن الواجب القانوني والأخلاقي أن يُعنى الجميع بما يحول دون انتشاره ويعالج آثاره، ولا يقل عن ذلك أهميةً أن يراجع الإنسان ويتساءل بعمق عن أوبئة أخطر، يمكن القضاء عليها، والحدّ منها، مستمرة بفعل البشر، وأن نتذكّر ما ذكره أستاذ تاريخ الطب في جامعة ييل، فرانك سنودن، إن "الأوبئة هي فئة من الأمراض التي يبدو أنها تمسك المرآة للبشر وتلعب دور الكاشف للبشرية"..