العدد 1544 /4-1-2023
د. وائل نجم

مستوى الأزمة الذي بلغه لبنان لم يكن مسبوقاً من قبل على الرغم من الأحداث التي مرّت على اللبنانيين بما في ذلك خلال الحرب الأهلية المشؤومة والاجتياحات الإسرائيلية والعدوان أكثر من مرّة عليه.

فالأزمة هذه المرّة صامتة لناحية صخب النار والرصاص ودوي المدافع والقنابل ولكنّها مميتة وقاتلة لناحية طريقة خنق اللبنانيين على البطيء بلقمة عيشهم وحبة دوائهم وتعليم أولادهم أو تأمين الطبابة لمرضاهم!

إنسداد في أفق الحلول السياسية لأنّ منطق التعطيل هو السائد، ومنطق الاستتباع للخارج هو المسيطر على العقول التي تريد الاستقواء بالخارج على الشركاء في الوطن، ومنطق الاستئثار بالسلطة وبكل أو بأغلب مفاصلها هو الطاغي على النفوس المريضة المسكونة بحب "الأنا" أو "نحن" من دون اكتراث لبقة المواطنين أو الشركاء في الوطن، وكأنّنا في هذه الوطن ننقسم إلى مواطنين من فئة أولى ومواطنين من فئة ثانية وثالثة!

إنسداد في أفق الحلول الاقتصادية لأنّ منطق رجل الدولة غائب عن عقول وأذهان أولئك "الأقزام" سياسياً، مع احترامي لقصيري القامة وإجلالي لهم وليس في ذلك تنمّر عليهم؛ إنما أولئك الأقزام سياسياً لا يعرفون معنى الدولة والوطن ولذلك يعطّلون أي حلّ اقتصادي عبر فسادهم ونهبهم وتطويع كل ما يستطيعون تطويعه من أجل زيادة مداخيلهم المالية وأرصدتهم في البنوك الخارجية.

إنسداد في قنوات التفكير عند أصحاب العقول المكبّلة بالانغلاق، والنفوس المتقوقّعة على الذات الطائفية والمذهبية وحتى الشخصية في أغلب الأحيان. كيف لهولاء أن يصنعوا الحلول وهم قاصرون عن التفكير سوى بذواتهم أو بـ "الغيتو" الطائفي أو المذهبي أو الشخصي الذي حبسوا أنفسهم به؟! هؤلاء تقول لهم الوطن، فيردّون عليك بالصلاحيات الطائفية والمذهبية والشخصية وما إلى ذلك. تقول لهم المواطن الإنسان المكرّم، فيردّون عليك بأبناء الطائفية والمذهب والحزب ألخ.. كيف لهؤلاء أن يصنعوا الحلّ وهم لا يعرفون الوطن ولا يفقهون قيمة ودور رجل الدولة؟!

تسمع عن دعوات إلى الحوار أو تنظير أنّ الحلول يبدأ من كذا، والجميع ممن هو مسؤول عن الأزمة أو الأزمات التي باتت تنذر بانهيار الهيكل، يُطلق هذه الدعوات والمواقف، والملفت أنّه يرى أن الحوار هو الحل، ولكنّه يرفع سقفه قبل الحوار إلى عنان السماء بحيث أنّ الحوار عنده يكون بتسليم الطرف المقابل له بشكل كامل! أيّ حوار هذا الذي يكون من هذا النوع؟! وأيّ حلّ يمكن أن يصل إليه المرء أو أن يصمد إذا كان على هيئة استسلام أو إقرار بالهزيمة؟!

تسمع من البعض أو ربما من الجميع تشديداً على حريّة وسيادة الوطن، ثم تجد أنّ من يُطلق ذلك ويتحدث فيه قد رهن نفسه بشكل جزئي أو كلّي لبعض الخارج أو ربما أيضاً لكلّه! عن أيّة سيادة وحرّية للوطن تتحدثون؟! إنّكم بذلك تطلبون الوصاية من الخارج، مجتمعاً أو مفككاً، ليكون مساعداً لكم على الإجهاز على ما تبقّى من هذا الوطن وعلى قاعدة "مات الوطن لتحيا الطائفة أو المذهب أو الحزب أو الزعامة أو ألخ ..."

إذاً من يُـنقِـذ البلد في هذه الحالة؟

إذا انتظر اللبناني الإنقاذ من الخارج، بغض النظر من يكون هذا الخارج، فهو ينتظر السراب. ببساطة الخارج يريد لبنان ساحة لتصفية حساباته مع الأطراف التي يتصارع معها، ولا يريد لبنان وطناً لأبنائه، ولا تغرّنكم الشعارات والمواقف والتصريحات من أيّة جهة صدرت من الخارج.

إذا انتظر اللبناني الإنقاذ من الطبقة أو بالأصح المجموعة الحاكمة لأنّها ليست طبقة حقيقية، فهو أيضاً ينتظر السراب. فهذه المجموعة لم تعد ترى إلّا نفسها فقط، حتى محطيها الضيّق الذي تتحدث باسمه وتوهمه أنّها تعمل لحسابه ولحمايته ولتأمين مصالحه فهي تخدعه و"تضحك" عليه بهذه المسرحيات التي تخدّره بها عبر تخويفه من شريكه في الوطن كما لو أنّه "غول" يريد أكله، والحقيقة أنّ "الغول" الحقيقي الذي يأكل الجميع هم أنفسهم أولئك المتربّعون على عرش السلطة والسيادة باسم اللبنانيين أو بالأحرى باسم طوائفهم ومذاهبهم وأحزابهم. لذا لا تنتظروا الحل والإنقاذ من أولئك، أساساً هم يعيشون في عالم غير العالم الذي نعيش فيه نحن كمواطنين.

الحلّ هو في انفتاحنا على بعضنا، والتجربة الحياتية بيننا شاهدة على أنّنا نعيش كلبنانيين مع بعضنا من دون عقد ومن دون حواجز سوى ما يحاول أن يبنيه أولئك بيننا من تخويف غير مبرر.

الحلّ هو في عزلهم، بمعنى أن يعيشوا في عزلة عنّا. نعم لا تقيموا لهم وزناً ولا ترفعوا لهم راية ولا تلبوا لهم نداءً ولا تكترثوا لهم إذا ما أطلقوا تهديداً، ستجدون أنّكم بدأتم بالعلاج الحقيقي للأزمة. ربما يقول قائل إنّ ذلك يحتاج إلى مسار طويل، وقد يكون ذلك صحيحاً، ولكنّ البديل عن ذلك هو المزيد من الانهياء أو استمرار الأزمة، وربما يستعملنا أولئك في نهاية تلك الأزمة وقوداً في حروب يسّعرونها بيننا ثم يقطفون ثمارها بينهم. أليس ذاك المسار الطويل أفضل من أن نظلّ على هذه الحالة؟ أليس أفضل من أن نكون يوماً وقوداً لحروب آخرين على حسابنا!

الحلّ يبدأ من أيدينا ومن أنفسنا، وهو الحلّ الحقيقي، وما دونه هو السراب والملهاة.

د.وائل نجم