العدد 1604 /6-3-2024
سامي الخطيب

يأتي شهر رمضان هذا العام والأمة الإسلامية تعيش حالة غير مسبوقة من العدوان والحصار والتخلي. فالعدو الصهيوني، الذي يعيث في أرض غزة قتل وتدمير وتهجير، لم يترك آلة للحرب إلا واستعملها، ولا شكل من أشكال الاعتداء الوحشي إلا وانتهكه، فقتل ودمر وهجر وشرد، على مرأى من العالم ومسمع، حتى كان آخر ما تفتقت عنه العبقرية الصهيونية الإجرامية اللجوء إلى سلاح التجويع، فكان شكل جديد من أشكال الحصار الذي منع عن أهل غزة كل شيء حتى كاد يمنع عنهم الهواء لو استطاع!

حصار الأحزاب وطوفان الأقصى

يجتمع طغاة الأرض، من بني صهيون ومن معهم من طغاة الغرب المنافق وصهاينة العرب الخونة، على أهل غزة اليوم، يقصفون بيوتهم، ويدمرون مساجدهم، ويقتلون فيهم كل حياة. يجوعون أبناءهم، ويستهدفون نساءهم، ويجهزون على من نجا منهم بالحصار، يقتل بالجوع من لم يقتله الرصاص أو الصاروخ والنار، وليس هذا بدعا في الدعوات وتاريخ طلاب الحرية، ولا جديدا في تاريخ الإجرام وطباع الطواغيت المتألهين والطغاة الظالمين من بني البشر، فالحصار، بشتى أشكاله، سلاح يستخدمه الطغاة في كل زمان، وكأني بواقع أهل غزة اليوم من اجتماع القوى العالمية على حصارهم، مع تخلي القريب والبعيد عنهم، هو عين ما وصف به الله ﷻ النبي ﷺ ومن معه في غزوة الأحزاب، إذ يقول الله سبحانه في وصف أولئك مما يصح في وصف هؤلاء: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ۚ وكان الله بما تعملون بصيرا، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا".

كان الأمر بالأمس كما هو اليوم: شدة لا يحتملها إلا مؤمن صادق، وامتحان شديد لا يجتازه إلا المجاهد الثابت، ورعب مخيف تصطك له أسنان الجبابرة وترتجف له قلوب الرجال الأشداء، حين يخيم الموت وتزيغ الأبصار وتبلغ القلوب الحناجر، ويمتحن المؤمنين، "ليقضي الله أمرا كان مفعولا. ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة"، فالتحق بالكافرين من التحق، وانسحب من الجيش من انسحب، وثبت على الحق من ثبت. وكان من شد الأمر أن جاء رجال إلى رسول الله ﷺ، إبان الحصار في غزوة الأحزاب، يشكون إليه حالهم، حتى كشف أحدهم عن بطنه وقد ربط عليه حجر من الجوع، فكشف النبي ﷺ عن بطنه وقد ربط عليه حجران! وكان حالهم أهل غزة اليوم كحال الصحابة الكرام مع النبي الكريم ﷺ: "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل". فماذا كانت النتيجة؟ أرسل الله إلى الأحزاب، على كثرة عددهم ووفرة عتادهم، ريحا وجنودا من عنده، فانهزموا ونصر الله المؤمنين، هكذا كان وهكذا سيكون.

الحصار يتكرر والنصر يتكرر

لم يكن حصار يوم الأحزاب هو الحصار الوحيد للنبي ﷺ والثلة المؤمنة معه، فلقد اجتمع أهل مكة في دار الندوة وقرروا قتل النبي ﷺ أو إخراجه أو إلزامه بما يريدون، قال سبحانه: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ۚ ويمكرون ويمكر الله ۖ والله خير الماكرين"، وذلك هو ما حصل اليوم، حيث كان قرار حكومة الحرب الصهيونية القضاء على حماس، وتهجير أهل غزة إلى سيناء أو الشتات، أو القتل في مجازر لا تبقي منهم ولا تذر. مكروا بالأمس مكرهم، ويمكرون الآن مكرهم، والله تعالى يقول: "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين". نجا الله نبيه ﷺ بالأمس، ولم يتمكنوا منه، كما سينجي الله جنده اليوم دون أن يحققوا غاياتهم.

وقل مثلا ذلك في حصار النبي ﷺ وأصحابه وبنو عمومته في شعب أبي طالب، حصارا اجتماعيا واقتصاديا شاملا، استمر ثلاث سنوات، حتى جاعوا فأكلوا أوراق الشجر، وبلغت بهم المخمصة أن أكلوا جلود الحيوان وبقايا عظام الجيف، وكانوا، كما أهل غزة اليوم، يطحنون أعلاف الحيوانات لصنع الخبز، بعدما حرموا الطحين، أو يبحث أحدهم في حاويات القمامة عن بقايا طعام يسد به جوع أبنائه، وهو يقول: "الموت أرحم من الجوع". وكانوا على هذه الحال حتى أتاهم النصر من حيث لا يظنون، فهيأ الله لهم هوام الأرض وبعض كفار قريش، لتمزيق الصحيفة، وكسر الحصار، وانتهاء المحنة... هو الله الذي مكن لنبيه بعد المحنة، وسيمكن للذين آمنوا من أهل غزة... هو الله الذي يملك النصر وقد أمرنا بالصبر، كما وعد بمفاتيح الفرج عند اشتداد الكرب، وهو القائل سبحانه: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ۚ إن الله قوي عزيز"، "ويقولون متىٰ هو ۖ قل عسىٰ أن يكون قريبا"، "إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب؟!".

بقلم: سامي الخطيب