العدد 1608 /3-4-2024
سامي الخطيب

قال لي صاحبي وقد قرأ مقالتي التي نشرها موقع "مجلة الأمان" اللبنانية، في وقت سابق، حول الخطاب الدعوي في لبنان: أراك تدعو إلى اللين مع من يقسو علينا، وتطلب التعامل الرحيم مع من يمكر بنا ويريد "شطبنا"، وتتحدّث عن الوطن والمواطنة مع من لا يراك مواطناً مساوياً له على هذه الأرض! قلت نعم: هذا ما أدعو إليه وأطلبه وأؤمن به، وليس هذا بدعاً من القول والفكر والمنهج، بل هو قراءة واقعية لروح الإسلام ودعوة النبي عليه الصلاة والسلام، فنحن نتعامل مع الناس بأخلاقنا لا أخلاقهم، وبوحي الله لنبينا ﷺ لا بما يفعله الآخرون أو ينطلقون منه في بناء سلوكهم. وما كان الإسلام إلا "رحمة للعالمين" بتوجيه ربّ العالمين: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"، وتوجيهه إلى البحث عن أفضل السبل للتبليغ حين قال سبحانه: "ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم"، وهو ما أوصى به الله ﷻ نبيه ﷺ حين قال له سبحانه: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ". ولو ذهبنا نتقصّى آي القرآن وسنّة النبي ﷺ في مخاطبة أهل الملّة والآخر لما وجدنا فرقاً بين الخطابين، اللذين يتّسمان باللين والرفق والرحمة، حيث الهدف دائماً هو الدعوة إلى الخير، والحرص على الآخر، ونشر المحبة والسلام بين الناس.

مفهوم المواطنة

أمّا المواطنة فشعور يغمر القلب بالخير والحبّ والرغبة بالإصلاح، فيدفع صاحبه لخدمة المجتمع واحترام الآخر والدفاع عن الحقوق، والسعي للتّحسين والتطوير والتقدّم والنهضة. والمواطنة بهذا المعنى يتعدّى مفهومها الانتماء الظاهري للأرض التي نسكنها والناس الذين نعيش معهم، إلى العلاقة الوطيدة: شعوراً وممارسة، بالأرض والتاريخ والتراث واللغة والمصير والكثير من المشتركات والعادات والقيم، فهو ينطلق من صفة شعورية تربط المرء بأرضه وأهله، إلى التزام عملي تعاقدي يؤطّره القانون ويضبطه النظام العام بناء للالتزام الشخصي الرضائي والرابطة الجمعية في ظلال الدولة المدنية.

وثيقة المدينة

جاء رسول الله ﷺ وأرسى دعائم دولته الناشئة من خلال "وثيقة المدينة" التي تعتبر أول وثيقة حقوقية إنسانية تعزز مفهوم المواطنة وتؤكّد كرامة الإنسان وحقّه بالعيش الكريم، في ظلّ دولة ترسي دعائم العيش المشترك، ويتساوى، من خلالها، المواطنون في الحقوق والواجبات، دون أيّ اعتبار لاختلاف طوائفهم ومعتقداتهم، وتعدّد أصولهم وأعراقهم، إذ كان في الدولة الإسلامية الناشئة التي أرسى دعائمها النبي الكريم ﷺ اليهودي والنصراني والمشرك والمنافق، كما فيهم العربي والفارسي والرومي والحبشي، وكلهم ترعاهم الدولة ويحميهم القانون ويكفل لهم النظام العام حرياتهم وكراماتهم.

المواطنة الرحبة في ظلال الإسلام

لقد سبق الإسلام حين قدّم من خلال "وثيقة المدينة" رؤية حضارية للدولة المدنية القائمة على حفظ الحقوق واحترام الحريات والتعامل مع المواطنين على قدم المساواة وقيم العدل والإحسان، حيث أعطى للمواطن الحرية الكاملة في المعتقد والتعبير، والعدل المطلق تحت سقف القانون دون أيّ تمييز، وتجاوز في مفهومه المواطنة في الدولة القومية المعاصرة التي ضيّقت مفهوم المواطنة حين جعلت منه قيداً يحول دون المساواة بمعناها الشامل، وسجناً يمنع الانطلاق للخير العام على مستوى البشرية والكرة الأرضية، فيما جاء القرآن ليؤكد قيم الخير العام والإصلاح المطلق بقوله تعالى: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها". بل إنّ كثيراً من الدول الحديثة ابتدعت من الأنظمة والقوانين ما يميز بين المواطنين على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو المكانة الاجتماعية والانتماء السياسي، فأعطت لفئة من الناس حقوقاً ما لم تعطه لآخرين، تحت شعاراتٍ ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب.

واجبنا في زمن الفتن

إنّ إيماننا بأنّنا أصحاب دعوة جعلها الله "رحمة للعالمين" يجعلنا نستشعر مسؤوليتنا تجاه المجتمع والناس في هذا العالم الضائع التائه، ويتطلّب ذلك من الدعاة البحث عن المبادئ التي قامت عليها الدعوة المحمّدية في تبليغ الرسالة ونشر الدعوة، ليكون سيرنا على هدى وبصيرة، نعرف هدفنا فنركّز عليه، وسبيلنا فلا نحيد عن معالمه، حتى لا نضيع في متاهات الطريق، لأنّ من أعظم أسباب فشل الأُمَّة وهزيمتها غياب الهدف وضلال الطريق، والنِّزاع في الجزئيات في زمن صراع الكليات، والله تعالى يقول: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إنَّ الله مع الصَّابرين".

بقلم: سامي الخطيب