العدد 1468 /30-6-2021

هي المرة الأولى التي يشعر فيها المغترب عن لبنان بغربته بعد وصوله إلى لبنان. فالأزمة الاقتصادية والانهيار النقدي الذي يعاني منه اللبنانيون جعل نظرتهم للمغتربين مختلفة، وتحمل في طياتهم بعض الحقد والحسد والغلّ، خاصة أصحاب النفوس السوداء.

فما هو بديهي أن المغترب اللبناني يقبض راتبه بالعملة الأجنبية تبعاً للبلد الذي يعيش فيه، وهذا يعني حسب المصطلح اللبناني أنه يقبض بالـ "الفريش دولار"، وبالتالي فإن معيشته لم تتأثر بالانهيار النقدي الحاصل، بل على العكس هو استفاد من انهيار العملة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي. هذه النظرة تحتاج لبعض التوقف والتأمل.

فليس صحيحاً أن المغترب سعيد بانهيار سعر صرف الليرة، فإذا كان قد استفاد بعض الشيء من الانهيار النقدي بسبب الفارق بين الليرة والدولار -رغم أن الكثير من السلع ارتفع سعرها بشكل لا يتناسب مع تراجع سعر صرف الليرة- لكن ما يتغافل عنه البعض أن لهذا المغترب أهل وأحباب وأصدقاء ورفاق وجيران يعانون من الأزمة الحاصلة، وهو يشعر بالأسى عليهم، علاوة على أنه معني بالتخفيف عنهم قدر استطاعته.

معاناة اللبنانيين لا تقتصر فقط على انهيار الليرة والارتفاع الفاحش بأسعار السلع والحاجيات، بل تمتد إلى تراجع كبير في الخدمات الأساسية. فالتيار الكهربائي الذي لايزور اللبنانيين إلا ساعة أو ساعتين في اليوم والليلة لا يفرق بين مغترب أو مقيم، وتقنين اشتراك المولد الكهربائي الذي يزاحم تقنين كهرباء "الدولة" بسبب ارتفاع أسعار المازوت وندرة توفره، لا يفرق أيضاً بين مغترب ومقيم حتى ولو كان المغترب مليونيراً، فإنه سيتصبب عرقاً كما المقيم بسبب عدم القدرة على تشغيل المكيف الهوائي. كما أن أزمة البنزين وطوابير الانتظار أمام محطات الوقود أيضاً لا تفرق بين مقيم ومغترب، ولعلّ وقع هذه الأزمة أشد على المغترب الذي وعد نفسه بالتنقل والتنزه بين المناطق وهذا يتطلب استهلاكاً أكبر للبنزين. فهو لم ينتظر شهوراً حلول إجازته الصيفية حتى يقضيها في مكان إقامته. في حين أن حركة المقيم ستكون محدودة أكثر ويمكن ضبطها بشكل أكبر، وبالتالي حاجته للبنزين ستكون أقل. وعلى فرض أن المغترب أكثر ثراء من المقيم فهذا يعني أنه يملك سيارة فاخرة وهذا يتطلب استهلاك المزيد من البنزين وبالتالي الانتظار أكثر في طوابير محطات البنزين.

بعض المقيمين الذين يرمقون المغتربين بطرف أعينهم أوضاعهم المعيشية أفضل من أوضاع المغتربين، وهذا يبدو واضحاً في نمط عيشهم، والمطاعم التي يرتادونها والسهرات التي يقضونها والحاجيات التي يشترونها. فليس بالضرورة أن يكون المغترب ميسور الحال. فالكثير من المغتربين يضطرون للاستدانة لتأمين قسط أبنائهم المدرسي، أو لدفع إيجار منازلهم المتأخرة، أو لإجراء عملية جراحية لا يغطيها التأمين الصحي في البلدان التي يعيشون فيها، وعلى رأي المثل "صيت غنى ولا صيت فقر"

علاوة على كل ما سبق، وعلى فرض أن المغترب جاء إلى لبنان لاستغلال الانهيار النقدي والاستفادة من "الفريش دولار" الذي في جيبه، فهذا أمر يجب أن يُسعد اللبنانيين، لأنه بذلك يُدخل عملة صعبة إلى البلد، ويُعوّض النقص الحاد منها، ويساهم في إنعاش الدورة الاقتصادية المعطلة، وهذا لن ينعكس فقط على الفندق الذي أقام فيه المغترب أو المطعم الذي ارتاده أو "الكافيه" الذي احتسى فيه القهوة، بل يصل تأثيره لكل اللبنانيين ولو بشكل غير مباشر. فاستفادة مجموعة من اللبنانيين يخفف الضغط عن بقيتهم.

كان من السهل على المغترب الذي جاء لزيارة لبنان خلال العطلة الصيفية أن يفعل كما فعل آخرون بالسفر لبلد آخر، لا يعاني من أزمات، يستمتع بمنتجعاته ومطاعمه ومعالمه وفعالياته وحفلاته وأن يصرف ما لديه من "فريش دولار" في تلك البلاد بعيداً عن لبنان وأوجاعه وأزماته وتراجع خدماته وقطع طرقاته. لكن البعض أصرّ أن تكون إجازته في لبنان بين ناسه، لأن لبنان مهما بلغت أزماته يبقى وطناً لأبنائه مقيمين ومغتربين، في حين أن أرقى وأجمل بلدان العالم ستكون محطة للسياحة والاستجمام لا أكثر.

أوّاب إبراهيم