العدد 1510 /27-4-2022

كأنّ طرابلس لايكفيها الفقر المدقع والحرمان والمعاناة والبؤس الذي يعيشه أهلها، حتى جاءتها مأساة غرق - إغراق حسب إفادة الناجين- زورق لهاربين في عرض البحر. من كانوا على متن الزورق لم يقطعوا طريقاً ولم يحرقوا إطاراً ولم يرشقوا حجراً ولم يتظاهروا.. هم انتظروا غروب الشمس وانشغال الناس بموعد الإفطار، وتسلّلوا تحت جنح الظلام إلى قارب ميمّمين شطر جزيرة قبرص، علّهم يلقون هناك مصيراً يكون أفضل من مصيرهم الحالك في لبنان.

هم كانوا يدركون حجم المخاطر التي تحيط برحلتهم، واحتمال أن لايصلوا إلى مقصدهم بسبب عواصف وأمواج عاتية، ويدركون احتمال أن ترصدهم القوات البحرية التابعة للجيش اللبناني فتعترض طريقهم وتمنعهم من المتابعة، كل هذا كانوا يدركونه، ويدركون احتمال احتجازهم في قبرص وإعادتهم إلى لبنان، لكن لم يخطر في بالهم أن يلقوا حتفهم على الشواطئ اللبنانية، بسبب اعتراض زورق تابع للجيش مسارهم، وتعمّد الارتطام بزروقهم ممّا تسبّب لثقب في الزورق وامتلائه بمياه البحر وغرقه خلال ثوان (حسب الناجين).

بإمكان قيادة الجيش أن تنمّق ما حصل كما تريد، بإمكانها أن تعزو سبب المأساة لجشع تجار البشر الذي يملأون القوارب بأضعاف سعتها. بإمكانها أن تتهم سائق الزورق بقيامه بمناورات للهرب من دورية الجيش، بإمكانها أن تحمّل مسؤولية غرق الزورق لحاله المتهالك الذي لم يتحمّل ارتطام زورق الجيش به، بإمكانها أن تكرّس الرواية التي تشاء وتفرضها على وسائل الإعلام، وأن تُحيط بضباطها وأفرادها (الذين تعمّدوا الارتطام بالزورق) خطاً أحمر لايمكن الاقتراب منهم "حرصاً على هيبة المؤسسة العسكرية وكرامة أفرادها". لكن ما يتعذّر على قيادة الجيش القيام به هو أن تكتم أنفاس الناجين الذين أدلوا بروايات متطابقة بعد انتشالهم من البحر، والتي أكدوا فيها تعمّد زورق الجيش الارتطام بهم، وتهديدهم قبلها بإغراقهم، وتوجيه شتائم بحقّهم بعد انتشالهم من الماء. هذه الروايات التي سيهملها الجميع، وسيصدقون بيانات جافة متعالية، تستهدف تحوير الوقائع والتملص من أي مسؤولية.

المؤسسة العسكرية ليست إلهاً ولا نبياً معصوماً. أفرادها ضباط ورتباء وجنود لم يهبطوا من السماء، بل جاؤا من المجتمع اللبناني بعلاّته وأزماته وفساده. والحفاظ على صورة المؤسسة لايكون بعقد مؤتمرات صحفية وإصدار بيانات جافّة متعالية مليئة بالكذب والتحوير في الوقت الذي يدرك جميع اللبنانيين الحقيقة. فالتنصل من المسؤوليات دائماً لايفيد، بل يضرّ بصورة المؤسسة العسكرية التي يحرص كثيرون على أن تكون مؤسسة وطنية جامعة لكل اللبنانيين. صورة المؤسسة لاتتأثر حين ترتكب الأخطاء، بل تتأثر وتنخدش حين تصرّ على تبرئة نفسها من أي مسؤولية، ورمي المسؤوليات على الآخرين، وترفض معاقبة المخطئين من أفرادها.

ليست المرة الأولى التي يعضّ فيها أبناء طرابلس والشمال على الجرح، خاصة إذا كان المتسبّب بالجرح الجيش اللبناني الذي لايكاد يخلو منزل في الشمال من أحد عناصره أو ضباطه. فأبناء عكار لم ينسوا بعد مأساة انفجار خزان وقود في منطقة التليل في آب الماضي والتي راح ضحيتها أكثر من 30 مدنياً وعسكرياً تفحّمت جثثهم وتبعثرت أشلاؤهم، وعشرات الجرحى. هذه المأساة التي يتحمّل مسؤوليتها الجيش اللبناني، بعدما صادر أحد خزانات الوقود المخزّنة وأشرف على توزيع محتوياته على الناس، لكن لم يتجرأ أحد على اتهام الجيش رغم إدراك الجميع بمسؤوليته، حرصاً على "الهيبة والمعنويات".

ككل الأحداث المماثلة، ينبري الجميع للمطالبة بإجراء تحقيق شفاف وسريع لتبيان حقيقة ما حصل ومعاقبة الفاعلين. لكن مالايفهمه أحد، كيف يُعقل أن يتمّ تكليف الجيش -من خلال المحكمة العسكرية التابعة له- بإجراء التحقيقات. هل يستقيم أن يكون القاضي هو نفسه المتهم، وهل نتوقع أن تكون التحقيقات التي ستُجريها المحكمة العسكرية نزيهة وشفافة إذا كان رئيس المحكمة وقضاتها ومحققوها تعيّنهم قيادة الجيش ويأتمرون بأوامرها؟!.

أوّاب إبراهيم