العدد 1534 /26-10-2022

بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف 1982، وخروج منظمة التحرير الفلسطيني من بيروت إلى تونس، بين 21 آب والأول من أيلول، برعاية قوات متعدّدة الجنسيات، أميركية - فرنسية - إيطالية، طُوِيَت صفحة من تاريخ حرب لبنان لتُفتَح صفحة جديدة لا تقلّ عنها مأساوية.

انسحبت القوات الغربية، من بيروت قبل انتهاء النصف الأول من ايلول. كان الجيش الإسرائيلي على مشارف العاصمة. وكان رئيس الجمهورية المنتخب، بشير الجميل، يستعد لاستلام مهامه. كان الأميركيون يعتقدون أن لبنان سيعود إلى مدار السياسة الغربية، بعدما أسرته المقاومة الفلسطينية، الحليفة للاتحاد السوفييتي، منذ العام 1969، أي منذ تكريس العمل الفلسطيني المسلح في جنوب لبنان، بموجب ما يُعرف باتفاق القاهرة. وكانوا سيعوّلون على الدبلوماسية للحصول على انسحاب الإسرائيليين والسوريين، ومن بقي من فلسطينيين في البقاع والشمال، معتقدين بقدرة الحكومة الجديدة على إعادة بسط سيادة الدولة على كامل أرضها. وكانوا يأملون أيضاً تحقيق مصالحة وطنية لبنانية - لبنانية، لإعادة بناء السلام والاستقرار الدائميْن في هذا البلد. كذلك، كانوا يراهنون على مساعيهم الهادفة إلى مدّ الجسور بين بشير الجميل والسعوديين، لان السعودية ودول الخليج تعتبر بمثابة "رئة اقتصادية" لا يُستغنى عنها للبنان. بالطبع، هدفهم المتمثل بتوقيع اتفاقية سلام بين لبنان وإسرائيل كان في مقدّمة قائمة أولوياتهم آنذاك.

السياسة الأميركية حيال لبنان، بعد الاجتياح الإسرائيلي وخروج منظمة التحرير، كانت طموحة إذاً. لكن كل الطموحات تبخّرت على مراحل: بدءاً من اغتيال بشير الجميل في 14 ايلول 1982، وصولاً إلى 23 تشرين الأول 1983، يوم سقط 241 جندياً أميركياً و58 جندياً فرنسياً في هجومين عنيفين. فماذا حصل على مدى هذين العامين؟ وكيف فشلت الولايات المتحدة في إعادة وضع لبنان في خانة الدول الخاضعة لنفوذها، لا لنفوذ خصومها؟

إثر اغتيال بشير الجميّل، وما مثّله ذلك من نكسة لموارنة لبنان، شهدت بيروت حدثيْن خطيريْن آخرين: احتلال الجيش الإسرائيلي للعاصمة بيروت، وهو أمر قوبل بإطلاق اللبنانيين "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" مجازر صبرا وشاتيلا بحق الفلسطينيين على يد عناصر كتائبية بإشراف إسرائيلي.

بسرعة، دانت واشنطن المجازر بحزم، واعترضت على دخول الإسرائيليين بيروت، خلافاً لما كان اتفق عليه في إطار خطة إخراج منظمة التحرير من لبنان، التي توصّل إليها المبعوث الأميركي، فيليب حبيب. وتُرجم هذا الاعتراض بتصويت واشنطن لصالح القرار 520 الصادر عن مجلس الأمن، في 17 سبتمبر، والذي دان دخول القوات الإسرائيلية بيروت. وعلى الفور أيضاً، دعمت واشنطن انتخاب القيادي الكتائبي، أمين الجميّل، شقيق بشير، رئيساً للجمهورية، في 23 سبتمبر. وذهبت الإدارة الأميركية إلى أبعد من ذلك بتصميمها على إعادة إرسال "المارينز" إلى لبنان في إطار قوات متعدّدة الجنسيات مجدّداً، وليس تحت راية الأمم المتحدة. وقد أعلن الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، في العشرين من الشهر نفسه، أن هدف هذه القوات لا يتمثل في "تأدية دور الشرطي، بل في تمكين السلطات الشرعية في لبنان من الاضطلاع بمهامها". هكذا عادت القوات متعدّدة الجنسيات إلى بيروت، اعتباراً من 24 سبتمبر، بمشاركة أميركية وفرنسية وإيطالية (ولاحقاً بريطانية)، وبطلب رسمي من الحكومة اللبنانية.

كانت بيروت لا تزال تنزف دماءً، حين وصل إليها الجنود الغربيون. بالطبع، أحد الأهداف الرئيسة كان توفير الحماية للمدنيين الفلسطينيين في المخيمات، لعدم تكرار مجزرة صبرا وشاتيلا. كان انسحاب إسرائيل من بيروت هدفاً معلناً أيضاً للقوات متعدّدة الجنسيات. وهو أمر تحقّق في 26 سبتمبر، تحت الضغط الدبلوماسي الدولي، وعلى وقع عمليات "جبهة المقاومة". بالإضافة إلى ذلك، كانت إحدى مهام هذه القوات "الأطلسية" تتمثل في مساعدة الجيش اللبناني والقوى الأمنية الرسمية على ضبط الأمن، لكن من دون المشاركة المباشرة في ذلك. وعلى المدى الطويل، كانت هناك نيّة لمساعدة الدولة اللبنانية على إعادة بسط سلطتها الحصرية على كامل أرضها، ما كان يتطلب انسحاب جميع الجيوش الأجنبية من لبنان. بيد أن كل هذه الأهداف لم تتحقق. بدأت العراقيل تنكشف الواحدة تلو الأخرى. وكذلك الأخطاء الأميركية.

فرضت العقبة الأولى امتناع كل من سورية وإسرائيل عن الانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة فوراً. وفّرت المماطلة الإسرائيلية ذريعة لدمشق، لكي ترفض سحب قواتها من لبنان. في الواقع، كانت إسرائيل تشترط انسحاباً سورياً من لبنان حتى تسحب جيشها، في حين كان الرئيس السوري، حافظ الأسد، يشترط انسحاباً إسرائيلياً مسبقاً، حتى يسحب جيشه. وكانت لعبة الشروط هذه تعجيزية، وحالت دون انسحاب أيٍّ من الاحتلاليْن آنذاك.

تتعلق العقبة الثانية بعدم توسيع النطاق الجغرافي لانتشار قوات متعدّدة الجنسيات، ليشمل بيروت الشرقية إضافةً إلى بيروت الغربية. كان الفرنسيون يصرّون على هذا التعديل لمهمة قوات متعدّدة الجنسيات. لكن إسرائيل رفضت ذلك، وسط تقاعس أميركي، فكانت النتيجة أنْ عجزت السلطة الشرعية اللبنانية، برئاسة أمين الجميل، عن السيطرة على المليشيات المسيحية التي كان يقودها بشير وليس أمين في السابق.

الثأرية المتعمّدة التي قام بها الكتائبيون في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة الفلسطينيين و"حلفائهم المسلمين واليساريين". وكانت التجاوزات "هناك تُرتكب بلباس الجيش اللبناني"، بحسب ما ورد في تقرير دبلوماسي فرنسي، رقم 187، في 18 تشرين الأول 1982. ولم تساعد هذه التصرفات على توفير أرضية ملائمة لانطلاق مسار المصالحة الوطنية بين المسيحيين والمسلمين.

تتعلق العقبة الرابعة بتصرفات إسرائيل في منطقة الشوف في جبل لبنان، حيث يعيش ويتعايش الدروز والموارنة. منذ تشرين الثاني 1982، كانت هناك مؤشّرات على أن "من شأن عدم بدء الانسحاب الإسرائيلي" أن يزيد "مخاطر زعزعة الاستقرار والمواجهة في الشوف"، بحسب تقرير دبلوماسي فرنسي، رقم 220، في 26 نوفمبر 1982.

نتجت العقبة الخامسة عما يمكن تسميته الهجوم المضاد من خصوم الأميركيين والغربيين وأعدائهم في لبنان، فالنظام السوري بدأ العمل على إعادة تعزيز نفوذه ونفوذ حلفائه في لبنان. وقد حصل ذلك بدعم عسكري سوفييتي، وبالتوازي مع تنفيذ خطة ممنهجة لبناء قاعدة نفوذ إيرانية، عبر وجود مباشر لخبراء من الحرس الثوري الإيراني وبواسطة ما سيعرف لاحقاً باسم حزب الله اللبناني. سواء تعلق الأمر بالدينامية السورية أو تلك الإيرانية، فإن التداعيات ستكون واحدة على وجود القوات متعددة الجنسيات ودورها: العام 1983 سيكون دموياً ومكلفاً جداً.

بالطبع، كان لدى واشنطن حساباتها، ولو أن التجربة دلّت على خللٍ ما فيها. هي كانت تريد فعلاً إحلال الأمن والاستقرار بشكل دائم في لبنان. لكنها، وبحسب السفير الفرنسي آنذاك، جان - مارك هنري، في كتاب مذكراته (Les jardiniers de l'enfer)، الصادر سنة 1984، كانت تراهن "ضمنياً على التحالف الإسرائيلي - الكتائبي للحفاظ على النظام في بيروت الغربية"، وهو ما نظر إليه هذا السفير باعتباره "خطأ كبيرا" في التقدير. في الواقع، بحثت إدارة ريغان في شأن فكرة توسيع النطاق الجغرافي لعمل القوات متعدّدة الجنسيات من أجل التصدّي للتحدّيات الأمنية كافة.

كذلك، بدأ الأميركيون يفاوضون إسرائيل، في شباط 1983، بشأن انسحابها من لبنان، مقابل حصولها على ضمانات بشأن الأمن على حدودها. ويتمثل الهدف الفعلي هنا في رعاية اتفاقية سلام بين لبنان وإسرائيل، على أن تحظى بموافقة عربية، سعودية وسورية خصوصاً. حاولت إدارة ريغان إقناع إسرائيل بعدم وضع شروط للانسحاب، وبالتالي، سحب الذريعة التي تتسلح بها دمشق لسحب جيشها أيضاً. اتهم ريغان علناً إسرائيل، في 7 فبراير 1983، بأنها "تؤخّر بشكل غير مجدٍ" انسحاب جميع الجيوش الأجنبية من لبنان. وهدّدها بتجميد عملية تسليمها مقاتلات "أف-17"، بحسب ما ورد في مذكرات وزير الخارجية اللبناني الأسبق، إيلي سالم.

لم يؤثّر ذلك كله على الموقف الإسرائيلي. لكن، وبدلاً من التمسّك بمقاربة متوازنة وشاملة لحل مشكلة لبنان، مقاربة تقوم على إلزام كل من إسرائيل وسورية بالانسحاب الكامل والمتزامن من لبنان، كما كان يقترح وزير الدفاع الأميركي آنذاك، كاسبار واينبرغر، اتّخذت إدارة ريغان خياراً آخر. تمسّكت بضرورة توقيع اتفاق سلام منفرد بين لبنان وإسرائيل، وهو ما سيُعرف باتفاق 17 أيار. ضغطت على السلطات اللبنانية من أجل إقراره، علماً بأنه ينص على إقامة منطقة أمنية على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية تُشرف عليها لجنة مشتركة.

بمعنى آخر، كانت واشنطن مستعدّة للموافقة على حل يمنح إسرائيل وسورية ضمانات أمنية على حدود كل منهما مع لبنان. لكن دمشق كان لديها طموح بالحصول على أكثر من مكاسب أمنية محدودة. لذا هي لم تقايض، وأعلنت معارضتها الاتفاق، فكان هدفها يتمثل في إعادة فرض هيمنتها على لبنان وإسقاط السلطة الكتائبية، مراهنةً على حلفائها المحليين.

كانت الضربة القاسية الأولى التي تلقتها واشنطن في بيروت باستهداف سفارتها بهجوم انتحاري، في 18 نيسان 1983، أودى بحياة 66 شخصاً. تُنسَب هذه العملية لحزب الله ومن خلفه إيران. بعد ذلك، تعرّضت قوات متعددة الجنسيات لعدة عمليات، ما أدّى إلى مقتل جنود أميركيين وفرنسيين، في صيف وخريف 1983.

كان هناك ضربة ثانية أظهرت فشل السياسة الأميركية في لبنان، حين اندلعت حرب الجبل في أيلول بين المليشيات الدرزية والمارونية، متسبّبة بمذابح وبعمليات تهجير واسعة النطاق. شارك الجيش السوري مباشرة في هذه الحرب لمؤازرة حلفائه وتجنّب هزيمتهم. في المقابل، شاركت القوات متعدّدة الجنسيات في الحرب، واستهدفت المليشيات الدرزية واليسارية، ومواقع للجيش السوري أيضاً.

كانت الضربة الثالثة قاضية. بعد فشل واشنطن في الحصول على انسحاب الجيوش الأجنبية من لبنان، وفشلها في انتزاع معاهدة سلام بين بيروت وتل أبيب، وبعد تعثر مسار المصالحة الوطنية اللبنانية، وصل التصعيد العسكري ضد القوات الأطلسية في بيروت الغربية إلى ذروته في 23 تشرين الأول 1983. في ذلك اليوم، انفجرت شاحنتان مفخّختان بالقرب من مقر القوات الأميركية ومقر القوات الفرنسية في منطقتين مختلفتين بمحيط بيروت. تسبّب الهجوم بمقتلة لم يكن في وسع الغربيين تحملها. أنْ تنجح أطراف خارجية (إيران وسورية) بالتحالف مع طرف محلي (حزب الله) بـ"اصطياد" 241 جندياً أميركياً من المارينز، و58 جندياً فرنسياً.

في المحصلة، وبعدما استمرّت الهجمات المسلحة ضد القوات متعدّدة الجنسيات، أعلنت إدارة ريغان، في 7 شباط 1984، عزمها على سحب "المارينز" من البرّ اللبناني، والتمركز مؤقتاً في البحر فقط. كان ذلك تدبيراً يهدف إلى حفظ ماء الوجه، من دون وجود نية فعلية بالعودة. إثر هذا القرار، لم يكن في وسع لندن وروما وباريس إلا أن تحذو حذو واشنطن، ولو في أوقات مختلفة.

أرادت واشنطن هذا التدخّل الأطلسي من أجل استعادة لبنان دولة حليفة للغرب، فحصدت هزيمة عسكرية موجعة، فضلاً عن هزيمة سياسية أدّت إلى تعزيز الهيمنة السورية ثم الهيمنة الإيرانية في لبنان.