العدد 1552 /1-3-2023

أحمد عمر

روى الأقدمون حديثاً منسوباً إلى ابن عباس: "إن الأرض على ظهر النون (الحوت)، والنون على بحر، وإنّ طرفي النون؛ رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش على صخرة خضراء، وخضرة السماء منها وهي الصخرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن في قصة لقمان "فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ"، والصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى، وَما تَحْتَ الثَّرى لا يعلمه إلّا الله عزّ وجلّ، وذلك الثور فاتح فاه فإذا جعل الله عزّ وجلّ البحار بحراً واحداً سالت في جوف ذلك الثور، فإذا وقعت في جوفه يبست". وأغلب الظن أن قصة التاجر والعفريت في ألف ليلة وليلة، مقتبسة من هذا النص.

ازدادت الحروب، وتطورت الأسلحة المدمرة، وصُنعت قنابل ذرية وهيدروجينية ونووية، حتى باتت ميزاناً للزلازل بدلاً من ميزان ريختر، وجربت هذه الأسلحة في البشر وفي الشجر والحجر. وقد زاد أوار الحروب، فالصين موشكة على خوض حرب مع أمريكا نزاعاً على تايوان التي كانت أرضاً صينية، والصين تدغدغ أمريكا في خواصرها، وتتحرش بها بمناطيد التجسس فأوقعت فيها الذعر والخوف واستنفرت البنتاغون، وبهذا تكون الصين قد تأسّت بغزة في حرب البالونات، أو هو وقع حافر على حافر. أما أمريكا، فهي مركز كبير لتنظيم الحروب بين الشرق والغرب، منذ الحرب العالمية الثانية، كما تنظم الفيفا كأس العالم لكرة القدم!

أمريكا تقود الحرب ضد روسيا في أوكرانيا من وراء حجاب، وإن كان الحجاب لا يستر شيئاً، ليس خفَراً أو خوفاً من العار، إنما لبراعتها في فقه الموازنات والفوز بالنقاط وتدوير نواعير الحرب، وكانت قد فازت في الحرب العالمية الثانية بالضربة النووية القاضية، وكان بوتين قد قدِم من أقاصي الأرض الباردة طمعاً في المياه الدافئة في سوريا، فمياه روسيا تتجمد ستة أشهر في السنة وتمنعها من الإبحار في المحيطات.

وقد غزت سليلة فارس أربع دول عربية من غير خيل ولا ركاب، وتسللت إليها في مراكب الحب والدين، وأشرعة موالاة آل البيت، تريد الوصال والتمهيد للمهدي المنتجع في السرداب منذ 1300 سنة، من غير طعام ولا شراب، أي أربعة أمثال ما قضاه أهل الكهف في الكهف، وتوطئ له الأكناف.

إن رواية خبر المهدي مثل خبر الثور الذي يحمل الأرض على قرنه، ومَثَلُ إيران المتشيّعة كمثل منتظري الماشيح وموقعة أرماجدون لدى النصارى، فالماشيح "عجل الله فرجه" والمهدي المنتظر مسميان لمسمّى واحد، وهما ملّاحان لا يبحران إلا في لجج الدم، شطر ميناء القيامة. ولأمريكا مآرب أخرى في الحروب، غير السيادة على كوكب الأرض، مثل تقليل السكان ومكاسب تجارة الأسلحة، اهتداء "بهدي" الباحث الإنجليزي السكاني مالتوس.

هذا دولياً، أما في بلاد العرب أوطاني، فيندر أن تجد دولة عربية مسالمة شقيقتها، وقد تحولت مشاريع الوحدة العربية كلها إلى حروب وعداوات، وكان آخرها تصدّع مجلس التعاون الخليجي، الذي اتخذ الاتحاد الأوروبي له قدوة. وكانت سوريا تبيح السفر إلى الدول كلها إلا العراق أيام حكم البعثين الشقيقين اليميني واليساري، وغزت القوات السورية لبنان، وكانت محافظةً سورية من غير إعلان، كما سوريا محافظة إيرانية في هذه الأيام.

ويندر أن تجد دولة عربية ظهرت عليها أمارات القوة أو سيماء الغنى فبطرت إلا وغزت أختها أو همّت بغزوها. ونعلم أن قَطَر نجت من غزوة أختها السعودية قبل سنتين أو ثلاث. وبين الجزائر والمغرب خصومة كبيرة حول الصحراء الغربية، وتسمية الصحراء المغربية أولى وأصوب، وكانت غزوة العراق للكويت مقتلاً للعراق وتمزيقاً له، وكسر رعايا لبنانيون الجرّة بعد خروج سوريا من لبنان، وليبيا مقسمة بين ثلاثة كيانات متنازعة، لكل كيان راع دولي يكلؤه بالعناية والسهر والحمى. والدعوة على أشدها للفيدرالية في تركيا، والفيدرالية التي صلحت في بعض الدول الغنية مثل سويسرا أو في أمريكا التي تقودها حكومة عميقة شديدة القوة؛ لا تصلح في الدول العربية المتباينة في الفقر والغنى والحضر والبداوة وعدد السكان وأجناس الشعوب.

الحروب الأشد هي حروب النظم العربية على شعوبها، وهي حروب يستخدم فيها سلاحان رخيصان هما سلاح الجوع والإعلام. فالرغيف صاروخ صامت، ومؤخراً استخدم النظام المصري قنابل من لحم مجمّد من مصانع البرازيل للفراخ، يُخشى أنها مسمومة ومسرطنة وفاسدة أو منتهية الصلاحية. وتباع الأغذية في سوريا على البطاقة الذكية، وقد تباع قريباً في الصيدليات برخصة طبية، فالنظم العربية تخشى على الرعية من الشبع والبطر، والإعلام المصري والسوري يدعوان إلى الصوم من غير صلاة.

أما الإعلام العربي، فهو محشود مرفود، غايته الفرقة بين الشعب الواحد، وقادة الحرب إعلاميون مراهقون يؤلّبون الرعية ضد بعضها البعض، ولكل فريق مفتوه، ومطربوه، ونجومه. والتضريم على أشدّه في حدائق التاريخ، وقد صُرف حديثاً 100 مليون دولار على مسلسل معاوية، الذي سيبث في رمضان. وأنتج فيلم عن شجاعة أبي لؤلؤة، والغارات على البخاري يوميّة، فحتى تغنم الحاضر لا بد من هدم الماضي.

وقد ظهرت ساحة حرب جديدة في وسائل التواصل الاجتماعي، فهي وسائل انفصال تحارب وتقاتل، فيها خير لكن الشر فيها أكثر، فوسائل التواصل بلا قواعد ومحرمات، وإن تكن فهي قليلة تُباح لقوم وتُمنع عن قوم، مثل مشاهد الدم التي تباح في أوكرانيا وتمنع في بلادنا، لأننا شيباً وشباناً دون سنِّ الثامنة عشرة!

أما مشاهد الجنس، فقد أبيحت وتزداد ضراوة وسعاراً، ولا أكاد أجد صاحب قناة على يوتيوب -والقناة اسم للرمح في العربية- إلا ويستعدي خصماً له، رغبة في غنائم المشاهدات، وغنائم المشاهدات تكثر بالخصومات والصراعات، وهي تدرُّ المال، حتى إني وجدت مدرّساً سوريّا للغة الألمانية، تعلّم طلابه وزهدوا فيه، وكثر أمثاله من المعلمين الوافدين إلى ألمانيا، فافتعل مسرحية زعم فيها أن قوماً صوروه وهو نائم ويريد الثأر. وإنَّ إعلاميا سورياً مشهوراً خرج إلى ساحة في ألمانيا وطلب النزال من صاحب أحد التعليقات، فازداد عدد المشاهدين. وإن داعية مصرياً معروفاً جعل حربه مع صاحبة قناة سورية تعادي الإسلام...

الحرب الرابعة المستعرة هي الحرب داخل النفس الواحدة: يصبح المرء معارضاً فيمسي موالياً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً، وفي بعض الأرض: يضحو ذكَرا ويعشو أنثى.

اقتصر ذكرنا على حروب ما فوق الأرض دون الزلازل، فالأرض مرآة سكانها، وكان الطبري يستعين بمعارف عصره التي تشوبها شوائب، وكان المؤرخون يروون الإسرائيليات من غير حرج، ونعارض الطبري قولاً على قول: إنَّ الثور الذي يحمل الأرض على قرنه هو الإنسان، "إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً".