العدد 1546 /18-1-2023

للشيخ عصام تليمة

من بين الانتقادات التي وجهت لي بعد إعادتي طبع الطبعة الأولى من كتاب (في ظلال القرآن)، أنها اعترضت بأني لم أستشر أحدا من أهل العلم، وأن العلماء والمحققين يرفضون مثل هذا العمل، وهو تأصيل لمبدأ لديهم، وهو مبدأ: الوصاية على الناس في كتابتها، فإن مقصدهم هنا ليس الاستشارة العلمية التي يأنس بها الكاتب في بحوثه، بل استشارة أشخاص معينين في أذهانهم، واستشارة من يوافق رأيهم، ومع ذلك فقد حدث بالفعل أن رجعت لعلماء كبار لا يشك أحد في فكرهم وعلمهم.

فلم يكن مشروعي لإخراج أعمال الشهيدين حسن البنا وسيد قطب وليد اللحظة التي نحياها، بل كنت أعد له منذ سنوات طويلة، تعود لأكثر من ربع قرن، منذ كنت طالبا في كلية الدعوة بجامعة الأزهر، وقت أن بدأ يجتمع لدي دوريات وكتب الطبعة الأولى لكثيرين من العلماء، حتى صار عندي أكبر أرشيف للإخوان المسلمين وغيرهم، وهو ما يعرفه كل المختصين في دراسة الحركات الإسلامية سواء في العرب أو الغرب، يعرفون حصري وجمعي لهذا الأرشيف، بل وقراءتي وإتقاني له، ولتاريخه، سواء عند أصحابه، وخصومه، والمنصفين.

وكنت بالفعل قابلت الأستاذ محمد قطب رحمه الله سنة 1998م بعد أن جمعت تراث حسن البنا، وجمعت تراث سيد قطب، تقريبا كل المقالات التي كتبها كل منهما والتي لم تجمع بعد في كتب، وبدأت بنشر تراث البنا، وبقي تراث قطب، وكان وقتها محمد قطب أستاذا زائرا في كلية الشريعة بجامعة قطر، وعرضت عليه المشروع، ووقتها أبدى تحفظه، وقال: لا، سألته: لماذا؟ قال: هذه رغبة سيد. ولم أناقشه كثيرا في ذلك، رغم أن هذه الرغبة خولفت كثيرا، سواء من قطب أو غيره. وأعطيت ما لدي من تراث سيد لصديق يعنى به، وقد جمع وأكمل، وللأسف لم يخرج ما جمعه، حتى توفاه الله تعالى منذ عامين تقريبا.

إلى أن ثارت معركة سيد قطب والتكفير، حين كتب فيها شيخنا العلامة القرضاوي، وعند حديثه عن الموضوع ذكر أن الظلال كانت له طبعة أولى قبل الطبعة الأخيرة المنقحة، وهي معلومة يعرفها كل دارس لسيد قطب، وكانت لدي بعض الأعداد منها على هيئة أجزاء صغيرة تطبعها دار الحلبي، لكنها لم تكن مكتملة عندي، فسألت وقتها القرضاوي عنها، وبالفعل وجدتها عنده في نسخة جلدها القرضاوي معا، بدأت أقرأ فيها، واكتشفت الفروق الهائلة بين الطبعتين.

بعد فترة جاءتني فكرة إعادة طبع هذه الطبعة، كما هي، وفاتحت الشيخ في ذلك، فإذ به يثني على الفكرة، ويحثني على إتمامها، وأهمية نشر هذه الطبعة، وكان حتى ما قبل وفاته ببضع سنوات كلما تواصلنا يسألني عن أعمالي التي أعنى بها، وكان حريصا على معرفة ما تم فيها، فقد كنت أكتب كتابي: (لا رجم في الإسلام)، وكان يسألني عن تفاصيله، وكيف عالجت بعض النقاط المهمة فيها، وكنت أسأله فيما أقف فيه، ثم يسألني: ماذا فعلت في كتابك: عن الأمر والنهي في السنة؟ ويأتي عند الحديث عن الظلال، ويسأل أيضا، وفي كل مرة يشد على يدي، ويقول: هذا عمل عظيم، ومهم، توكل على الله، ونحن بانتظاره.هكذا كان رأي شيخي وأستاذي القرضاوي رحمه الله.

إن هذا العمل علمي بحت، ولم أحب أن أقدمه للناس بواسطة، ليكون عملا علميا خالصا، وقد اقترح بعض الأصدقاء قبل إصداره أن أطلب من شيخنا القرضاوي أو أستاذنا عمارة كتابة مقدمة، ولو طلبت لأجابا فيما أظن، ولكني راعيت ظروف كل منهما، سواء ظروف شيخنا الصحية وقتها، أو ظروف د. عمارة، وحساسية الموقف وهو في مصر.أما العالم الثاني الذي كلمته في المشروع: فهو المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة رحمه الله، وقد استشرته وسألته، بحكم أنه كان معنيا في بداية عمله العلمي بجمع تراث مفكرين كبار كالإمام محمد عبده، والكواكبي، وغيرهما، تشجع بشكل كبير عمارة، بل أثنى على الخطوة، واعتبرها عملا مهما، وإنجازا علميا مطلوبا، وبخاصة أن عمارة كان من أوائل من انتقدوا فكر سيد قطب في أكثر من عمل فكري، رغم الإشادة الدائمة بمكانة سيد الفكرية والعلمية، وفي آخر مكالمة بيننا قبل وفاته بأيام، كان سؤاله عن الطبعة، ومتى تصدر؟

أما ثالث أساتذتنا الكبار من المفكرين الفقهاء، فهو الدكتور محمد سليم العوا، وقد كانت له أيضا وقفات مع فكر سيد قطب في أكثر من سياق، وآخرها في كتابه: (المدارس الفكرية الإسلامية)، ولولا أنه أذن في نشر اسمه لم يكن لي أن أنشره، كما فعلت مع أسماء أخرى كبيرة جدا، لعلماء كبار، لكني لم أذكر أسماءهم مراعاة لظروفهم ووضعهم، وهم أيضا مقرون بعملي، مرحبين به.

كان أستاذنا العوا فرحا بشكل كبير، لصدور هذه الطبعة الأولى من الظلال، بل كان مما قاله لي: هذا هو سيد الذي قرأناه شبابا في ظلاله التي كانت قبل وقفاته الأخيرة التي نختلف معه فيها، وهي مهمة علميا وبحثيا.

كنت في غنى عن ذكر هذا الكلام، حيث إن هذا العمل علمي بحت، ولم أحب أن أقدمه للناس بواسطة، ليكون عملا علميا خالصا، وقد اقترح بعض الأصدقاء قبل إصداره أن أطلب من شيخنا القرضاوي أو أستاذنا عمارة كتابة مقدمة، ولو طلبت لأجابا فيما أظن، ولكني راعيت ظروف كل منهما، سواء ظروف شيخنا الصحية وقتها، أو ظروف د. عمارة، وحساسية الموقف وهو في مصر.

وكنت ولا زلت أتمنى أن يتم تناول العمل العلمي بإنصاف، ومنهجية علمية، دون التجاوز والإسفاف الذي صاحب كثيرا من التناول، وبخاصة ما كان على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي بطبيعة الحال لا تغير من قناعاتي قيد أنملة، ولا توقفني عن المسير في خطواتي، ولا ينبغي أن تفعل ذلك مع أي باحث، ولكنها للأسف تؤتي أكلها مع آخرين يخافون من مواجهة الناس، ولذا يحرم العلم وطلبته من خير كثير يدفنه علماء وباحثون، أعرف جهودهم ونشاطهم، ولكنهم يهمسون همسا شديدا بأفكارهم، وهو ما نتحسر عليه للأسف أن يصل حال البحث والعلم في بلادنا أن يقيم عليه الوصاية أهل الهوس الديني والعلمي.