العدد 1543 /28-12-2022

كيف نصنّف المذبحة التي شهدتها باريس، في 23 كانون الأول الجاري، وأودت بحياة ثلاثة أشخاص وإصابة آخرين في أوساط الجالية الكردية؟ طرحت هذا التساؤل وسائل إعلام فرنسية عديدة تفطّنت فجأة إلى أن تعريف مفهوم الإرهاب أكثر تعقيدا مما كانت تفعله عندما كان يتعلق الأمر بجرائم يرتكبها أشخاصٌ يحملون أسماء عربية أو ينتمون إلى الديانة الإسلامية، فهذه "الجريمة الملتبسة"، في نظرهم، تستعصي عن التصنيف، هل هي هجوم أم اعتداء أم قتل أم اغتيال أم مجرد إطلاق نار؟! حتى القضاء الفرنسي "حارَ" في تصنيف الجريمة، وسارعت النيابة العامة إلى إيجاد مبرّراتٍ لفاعلها عندما وصفته بـ "المختل عقليا"، وألغت قرار توقيفه لأسباب "صحية"، وأحالته على مستشفى للأمراض العقلية قبل أن تضطرّ تحت ضغط احتجاجات الجالية الكردية في شوارع باريس، إلى إعادة النظر في تكييفها الجريمة وإعادة اعتقال فاعلها وتوجيه تهمتي القتل ومحاولة القتل له بدافع العنصرية.

أعاد هذا العمل الإرهابي الذي أدّى إلى مقتل ثلاثة أكراد في فرنسا من متطرّف فرنسي عنصري يميني النقاش بشأن تعريف مفهوم الإرهاب في الإعلام الفرنسي. وفي الوقت نفسه، كشف عن ازدواج المعايير في تعريف هذا المفهوم ووصف المتهمين بارتكابه. وبتتبع أبرز وسائل الإعلام الفرنسية في الأيام الماضية، استعمل أغلبها تعبير "إطلاق نار" أو "الاعتداء" لوصف الجريمة رغم طبيعتها القاتلة والمرعبة، وربطها، حتى قبل أن يبدأ التحقيق، بـ "العنصرية" من دون أن يحيل على العلاقة المفترضة بين دافع المشتبه به وتنامي خطاب التطرّف العنصري الذي تتبنّاه جماعات وأحزاب فرنسية ممثلة في البرلمان، وتروّجه وسائل إعلام فرنسية معترف بها.

وعودة إلى ما وقع، فقد أقدم مواطن فرنسي في نهاية عقده السابع على قتل ثلاثة أكراد وإصابة آخرين في مركز ثقافي كردي في قلب باريس. ومنذ توقيفه، اعترف بأنه يكنّ "كراهية مرضية للأجانب"، وبأنه "كان يرغب في قتل عدد أكبر من المهاجرين والأجانب". وبما أن مرتكب الجريمة فرنسي، لم تكشف أي وسيلة إعلام فرنسية عن هويته، مقتصرة على الأحرف الأولى من اسمه، كما غابت صورته، باستثناء صورة التقطها له أحد الشهود مباشرة بعد توقيفه. وحرصت وسائل الإعلام القليلة التي نشرتها على تمويه ملامح صاحبها، احتراما لقرينة البراءة، خلافا لما اعتادت أن تفعله في حالات مماثلة، عندما يكون المشتبه به عربيا أو مسلما، حيث تتسابق وسائل الإعلام ذاتها في نشر اسمه كاملا ونشر صوره وصور بيته وعائلته والبحث في حياته وحياة أسرته وأصدقائه. كما لم نشهد مقالات افتتاحية قوية في الصحافة الفرنسية تندّد بـ "الإرهاب العنصري"، على غرار ما تصفه بـ "الإرهاب الإسلامي". وفي الوقت نفسه، لم يسارع المحللون إلى ربط أفعال القاتل باليمين المتطرّف العنصري الذي يحرض علانية على كراهية المهاجرين والأجانب، على غرار ما كانوا يفعلون، عندما يربطون أفعال مشتبه بهم، عرب أو إسلاميين، بأصولهم وبديانتهم، ويبحثون عن وجود علاقاتٍ، حتى لو لم توجد، مع جماعات إرهابية أو أفكار وخطابات إرهابية لإدانتهم إعلاميا أمام الرأي العام، حتى قبل أن يبدأ التحقيق! وليس فقط الإعلام الفرنسي وحده من وجد نفسه أمام موقف "حرج"، فـ"الحرج" و"التردد" في وصف الجريمة كما هي طبعا تصريحات السياسيين الفرنسيين، ومنهم الرئيس إيمانويل ماكرون الذي وصف ما وقع بـ "الهجوم البغيض"، فيما توارى عن الإعلام أقطاب اليمين المتطرّف الذين كانوا يسارعون إلى تأليب الرأي العام الفرنسي ضد الأجانب، عندما يكون الفاعل ينتمي إلى إحدى أفراد الجاليات المقيمة في فرنسا، أما إذا كان عربيا أو مسلما فالتهمة جاهزة وبإجماع كل مكونات الطيف السياسي الفرنسي.

راح وزير العدل الفرنسي، إريك دوبوند موريتي، يميّز بين "الجريمة العنصرية" و"العمل الإرهابي"، وقال للصحافة "الاختلاف هو ما إذا كنت ستلتزم أو لا تلتزم بأيديولوجية سياسية مزعومة"، معتبرا أنه "لا يوجد دليل على أن القاتل كان على صلة بمنظمة". ولكن، في سابقة "هجوم نيس" عام 2016، عندما قتلت شاحنة مجنونة عشرات من الأشخاص في مدينة نيس الفرنسية، لم تتردّد وسائل الإعلام والساسة الفرنسيين في تصنيف الهجوم بـ "الإرهابي"، رغم أن المحكمة الفرنسية ستٌقرٌّ، فيما بعد، في حكمها، بعدم وجود دليل على أن مرتكب تلك الجريمة "كان له أدنى اتصال مع منظمة إرهابية إسلامية"، وأثبتت التحقيقات أنه "تصرّف بمفرده"، انطلاقا من تشبّعه بإديولوجيته، تماما كما مرتكب جريمة يوم الجمعة الماضية.

يصف القانون الفرنسي الفعل الإرهابي بكونه فعلا يؤدّي إلى "الإخلال الجسيم بالنظام العام من خلال التخويف أو الإرهاب". وفي قاموس الأكاديمية الفرنسية، يصنف هجوما كلُّ "عمل عنيف وإجرامي ضد الأشخاص، أو الممتلكات الخاصة أو العامة، والمؤسسات". وإذا كان هذا هو التعريف القانوني والأكاديمي للعمل الإرهابي عند الدولة الفرنسية، فما الذي يجعل وسائل إعلامها وساستها، بل وقضائها أيضا، يتردّدون في تصنيف الفعل الشنيع الذي أودى بحياة ثلاثة أبرياء وروّع آلاف الأكراد الفرنسيين ومعهم ملايين الأجانب بـ "العمل الإرهابي" أو فقط بـ "الهجوم"؟ ألم تنطلق جميع المؤسسات الفرنسية في وصف جريمة إطلاق النار على صحفيي مجلة شارلي إبدو عام 2015 بـ "الهجوم الإرهابي"؟ فما الذي تغير اليوم حتى يتغيّر التصنيف؟ طبعا، تغير اسم القاتل ولونه وجنسيته وديانته. وهذا ما يجعل هذه الجريمة مزدوجة ومقزّزة، فهي ليست بدوافع عنصرية فقط، وإنما أيضا بغطاء عنصري!

لقد أدّت التجارة المقزّزة في الأفكار العنصرية إلى انتصار الكراهية الخالصة في وقتٍ كان ينبغي أن يكون فيه المجتمع موحّدا لمواجهة آفة الإرهاب. خطورة التسامح مع الخطاب العنصري والقومي المتعصّب المعادي للمهاجرين، والبحث عن تبريراتٍ لمتطرّفيه، وعدم وجود قوانين صارمة تحدّ من تطوره وغلوّه في وسائل الإعلام وداخل المجتمع، جعل هذا الارتفاع في العنف أمرًا لا مفر منه. الخطر واضح الآن، ولا أحد يستطيع أن يقول إنه لا يعرف. لا فرق بين خطابي "العنصرية" و"الإرهاب"، أليس الهدف واحدا، شحن الناس لاستعمال العنف لتجسيد خطابهم على أرض الواقع؟

يجب وضع هذا العمل في سياقه الطبيعي باعتباره عملا إرهابيا حرّكه تنامي خطاب الكراهية والعنف ضد الأجانب الذي تروّجه جماعات وأحزاب يمينية متطرّفة في فرنسا وأوروبا عموما، وهو لا يقلّ خطورة عن الخطابات التي تتبنّاها جماعاتٌ توصف بالإرهابية، فكلهم يدفعون الأفراد الذين يتأثرون بأفكارهم إلى ارتكاب أعمال عنيفة لا يمكن وصفها في الحالة الأولى بـ "إطلاق النار" وفي الحالة الثانية بـ "الإرهاب"! قبل أسبوعين، على هامش مباراة كرة القدم بين فرنسا والمغرب، شاهدنا على قنوات فرنسية شخصيات يمينية فرنسية متطرّفة ترددّ عبارات كراهية وعنصرية ضد أفراد الجالية المغربية في فرنسا، ولم يتحرّك القضاء الفرنسي في مواجهتهم، كما لم نسمع أصواتا فرنسية تنتقد تلك التصريحات العنصرية المقيتة أو تحتج عليها أو تدينها. التسامح مع أصحاب مثل هذه الخطابات التي تحرّض على الكراهية والعنصرية، وإفلات أصحابها من العقاب، وتهوين الطبقة السياسية لتأثيرها، كلها قنابل موقوتة تهدّد بتفجير المجتمع الفرنسي من الداخل.