العدد 1533 /19-10-2022

بشير البكر

غيوم سوداء في سماء العلاقات السعودية الأميركية، بدأت بالتشكل خلال ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، الذي خرج عن الخط التقليدي للسياسة الأميركية تجاه الرياض، والتي تعود إلى أربعينيات القرن الماضي، وقامت على قدر كبير من تشابك المصالح يرقى إلى التحالف الذي تجسد بقوة خلال الحرب الباردة، وكانت الذروة في حرب تحرير الكويت في عام 1991، عندما تحولت الأراضي السعودية إلى قاعدة، استقبلت عشرات آلاف الجنود الأميركيين.

في عام 1945، عقد الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، ومؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز بن سعود، اجتماعاً تاريخياً، على متن السفينة "يو أس أس كوينسي" في قناة السويس. وتم وضع الأساس لتفاهمات استراتيجية تقدم بموجبها الولايات المتحدة ضمانات أمنية للسعودية مقابل الوصول إلى احتياطيات النفط الهائلة للمملكة.

وجرى العمل بهذا التفاهم حتى الآن، وعلى الرغم من أنه تعرض للعديد من الامتحانات خلال العقدين الأخيرين، إلا أن ما يواجهه اليوم يشكل النقطة الحرجة.

قرار منظمة "أوبك بلس" الأخير بخفض إنتاج النفط بمعدل مليوني برميل في اليوم، كان القطرة التي أفاضت الكأس بين إدارة الرئيس جو بايدن والسعودية، ويجري النظر إليه على أنه ضربة كبيرة لعلاقة الرياض مع واشنطن.

وكتعبير عن انزعاجه الشديد، خرج بايدن عن حدود الدبلوماسية ووصف المسؤولين السعوديين بـ"قصر النظر"، في حين قالت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية، لصحيفة "فاينانشيال تايمز"، إنهم "غير مفيدين وغير حكماء".

وعلى وقع تنديد غاضب بالموقف السعودي وتهديدات ذات نبرة وعيد عالية، كشفت واشنطن عن نية صريحة لإجراء مراجعة سريعة وشاملة للعلاقات، بهدف فرض عقوبات على المملكة، من المرجح أن تصل إلى حد حظر الأسلحة والذخائر.

في عام 1973، قادت السعودية مقاطعة نفطية عربية للولايات المتحدة ودول أخرى دعمت إسرائيل في حرب أكتوبر/تشرين الأول، مما ساهم في حدوث ركود في الغرب. ومع ذلك، استمرت العلاقات.

وحصلت هزات عدة للأسواق، إحداها بسبب الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، التي أطاحت بالشاه المدعوم من الولايات المتحدة، في بلد ينافس السعودية على الهيمنة الإقليمية، وأخرى نتيجة غزو العراق للكويت عام 1990.

لا يمكن بسهولة طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة بين السعودية وأميركا، فما يربط بين البلدين لا يمكن له أن يأخذ منحى جديداً بين عشية وضحاها، لأنه تصعب تصفية المصالح المتشابكة، حتى لو حاول ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وبايدن أن يسيرا في هذا الاتجاه.

ولو حصلت قطيعة اليوم، لا يمكن لها أن تدوم لأمد طويل لأن المسألة غير مطروحة في البلدين؛ فلا النخب السعودية الجديدة عازمة على إدارة الظهر للولايات المتحدة، ولا مراكز القوى في واشنطن حسمت أمرها في اتجاه مراجعة جذرية العلاقات الأميركية السعودية، وتخفيض درجة التعاون القائم منذ حوالي سبعة عقود.

الواضح من جانب الرياض أن مسألة مراجعة العلاقات مع الولايات المتحدة أمر غير محسوم، على غير ما يروج في بعض الأوساط التي تتحدث عن مرحلة ما بعد أميركا. والدليل على ذلك أن الفريق الذي يخطط ويقود السياسة السعودية الآن، كان على علاقة متينة مع الإدارة الأميركية السابقة، وبالتالي فإن التجاذب الراهن يتعلق بخلافات حول قضايا محددة من قبل الطرفين، أخذت منحى تصعيدياً بسبب مشاكل ثنائية وإقليمية ودولية.

لا يعني ذلك من زاوية نظر الرياض، أن العلاقات ستعود إلى مجراها الطبيعي بمجرد مجيء إدارة أميركية جديدة مختلفة عن إدارة بايدن، وقريبة من إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.

ويعود السبب في ذلك، كما يتحدث إعلام الفريق السعودي الجديد، إلى أن هذا الفريق يعمل وفق أسلوب مختلف عن ذلك الذي اتبعته الأجيال السابقة، بما يناسب بصورة أفضل، مكانة وموقع ووزن السعودية التي تعرضت للتهميش في العقود الأخيرة، وأحد الأطراف الدولية التي ساهمت في ذلك هو الولايات المتحدة.

وقد وجه قرار أوباما توقيع الاتفاق النووي مع إيران في عام 2015، ضربة كبيرة للأسس التي قامت عليها التفاهمات السعودية الأميركية.

برزت مسألة المراجعة من جانب الرياض، كحاجة للدفاع عن النفس والمصالح والمكانة، لأن الاتفاق النووي، وفق حسابات الرياض، يمثل تهديداً استراتيجياً، كونه يخل بالتوازن في الخليج، ويمنح إيران فرصة استثنائية للهيمنة وترسيخ النفوذ والتحول إلى القوة الأولى في منطقة الخليج. ولا يعني ذلك بالنسبة للرياض تهميش دورها، بل تهديد أمنها المباشر، وهذا ما حصل فعلاً خلال حرب اليمن.

تحولت حرب اليمن إلى مقياس لمدى حساسية العلاقات وتقاطع المصالح الأميركية السعودية، وصارت بمثابة الكشاف للموقف الأميركي من الهجوم الإيراني على السعودية.

والثابت حتى الآن هو أن هناك نقطتين تشكلان خلافاً عميقاً بين الرياض وواشنطن. الأولى تتعلق بتزويد السعودية بسلاح أميركي نوعي للرد على الهجمات التي تشنها جماعة الحوثيين على المدن السعودية، والتي طاولت المنشآت الاقتصادية النفطية مثل "آرامكو"، والمطارات المدنية، وهذا أمر تعتبره الرياض خطيراً.

أما النقطة الثانية، فهي تتعلق بموقف الولايات المتحدة من الهجمات. وتعتبر السعودية أن واشنطن لم تكن حازمة حيال ما تعرضت له المنشآت السعودية الحيوية، وكان أول ما قامت به إدارة بايدن لدى وصولها للبيت الأبيض هو أنها رفعت الحوثيين عن لائحة المنظمات المصنفة على لوائح الإرهاب، وباشرت مباحثات إحياء الاتفاق النووي مع إيران.

وفي الوقت ذاته، بدأت إدارة بايدن التقطير على السعودية بالذخائر النوعية، وسحبت العديد من بطاريات باتريوت التي كانت توفر حماية لبعض المواقع السعودية الحساسة والاستراتيجية، الأمر الذي أزعج الرياض، ودفعها للبحث عن مصادر تسليح جديدة في روسيا والصين.

ورأت واشنطن في تصرف الرياض محاولة للابتعاد عنها، والتحالف مع خصومها الأساسيين في مرحلة صعبة، تخوض فيها الولايات المتحدة مواجهة مفتوحة مع موسكو وبكين.

وحصلت في هذا العام أكثر من محاولة لتجاوز التوتر، ووضع أسس لتفاهمات جديدة، ولكن واشنطن واصلت إدارة الخلافات بالأسلوب ذاته، وكانت زيارة الرئيس الأميركي للرياض في منتصف يوليو/تموز الماضي مثالاً صريحاً على أن الموقف يسير للتسخين وليس في اتجاه التبريد.

ومع أن بايدن ذهب إلى الرياض، فإنه بدا أنه لم يكن مرتاحاً لما يقوم به، وصدرت عنه سلسلة من التصريحات كادت أن تنسف الزيارة التي وضعها في إطار اجتماع مع قادة مجلس التعاون الخليجي، ومحاولة تشجيع التطبيع مع إسرائيل، وأعطى للشأن الثنائي أهمية أقل مع أن التقديرات كافة كانت ترجح العكس.

واللافت هو أن بايدن لم يكن مهتماً سوى بالحصول على دعم مجلس التعاون للموقف الغربي في حرب أوكرانيا. ولذا، كان هاجسه الأساسي أسواق الطاقة، خصوصاً سد النقص الحاصل في أسواق النفط الناجم عن العقوبات الغربية على روسيا، وقد حصل على وعود بذلك، وقامت السعودية بزيادة إنتاجها من النفط بمعدل مائة ألف برميل يومياً.

لم تكن الزيارة محسوبة بشكل جيّد، ولم تسفر عن تبريد وقتي للأجواء، ولذا فشلت في تحقيق تهدئة مديدة بين الرياض وواشنطن. ومن وجهة نظر الرياض، فإن بايدن ذهب إلى هناك ليأخذ بلا مقابل، ولذا استمرت مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران على ما هي عليه، ولم تتقدم الهدنة في اليمن نحو إنهاء التهديدات الموجهة للأراضي السعودية، بل إن الولايات المتحدة سحبت العديد من الأسلحة الموجودة في السعودية في وقت يزداد الموقف خطورة على الحدود في جيزان.

ردود فعل واشنطن على قرار "أوبك بلس" خفض الانتاج في المدى المنظور، ستكون على عدة مستويات. وستكون البداية من تحرير 10 ملايين برميل من الاحتياطي البترولي الاستراتيجي الأميركي في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، بهدف التعويض الجزئي عن انخفاض إنتاج "أوبك". وقد قال مسؤولون أميركيون إنهم سينظرون في الإفراج عن المزيد.

وهدد مسؤولون في البيت الأبيض بالتشاور مع الكونغرس حول سبل الحد من تأثير "أوبك" على أسعار النفط. ودعا أعضاء في الكونغرس إلى إحياء مشروع قانون يسمى "قانون عدم إنتاج وتصدير النفط للكارتلات"، المعروف باسم NOPEC، والذي من شأنه أن يخول وزارة العدل الأميركية رفع دعوى قضائية ضد "أوبك" تحت عنوان الاحتكار.

واقترح مشرعون آخرون تقليص شحنات الأسلحة للسعوديين. وسيتم ذلك في سياق إعادة تقييم العلاقات مع السعودية. وهذا أمر ليس جديداً، بل كان بايدن قد وعد به في وقت مبكر من ولايته في البيت الأبيض، بعد أن تعهّد بجعل الرياض "منبوذة" خلال الحملة الرئاسية عام 2020، وسط الغضب بعد مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الثاني 2018، وصدور تقرير أميركي رسمي يتهم بن سليمان بالأمر بتنفيذ العملية.

كل الخيارات الأميركية المطروحة تخاطر بتصعيد التوترات مع المملكة، بينما يصعب التكهن بالعواقب، ولكن الواضح من لهجة التصريحات الأميركية، هو أن نبرة الغضب عالية جداً، وغير معهودة مع دولة ربطها تاريخ حافل من التعاون مع أميركا. وهذا دليل ضيق كبير من الخطوة السعودية، التي جاءت قبل استحقاق الانتخابات الجزئية للكونغرس الشهر المقبل، ومن المرجح أنها ستتأثر بها حظوظ الحزب الديمقراطي سلباً.