ياسر محجوب الحسين

رغم محاولة الحكومة السودانية التقليل من دعوات العصيان المدني الذي تحقق بصورة جزئية في 27 تشرين الثاني الماضي، فإنه شكّل أكبر تحدٍّ شعبي لحكومة الرئيس عمر البشير منذ توليها السلطة في حزيران 1989. بيد أن الدعوة الثانية للعصيان المدني في يوم 19 كانون الأول الماضي -التي حاولت المعارضة التقليدية اختطافها من الشباب- لم تحظ إلا باستجابة لمحدودة. واستبقت الحكومة -التي بدت مرتبكة لأول مرة- موعد العصيان بتصريحات تشير إلى فشله. فالمعركة مع المعارضة التقليدية بعللها محسومة، لكن المعركة مع هذه الفئة لا يمكن النظر إليها بأقل من أنها تحدٍّ خطير. والداعون إلى العصيان يعلمون أنه من أبرز أدبيات الحركة السياسية في السودان، ويعود له الفضل في خلع الرئيس الأسبق جعفر نميري الذي حكم ما بين 1969 و1985. وكان العصيان محورياً أيضاً في المقاومة الشعبية التي أسقطت حكومة الرئيس الأسبق إبراهيم عبود الذي حكم ما بين 1958 و1964. ويتجسد التحدي أمام الحكومة في بروز معارضة شعبية لمنهج الحكومة في التعاطي مع القضايا الاقتصادية على وجه الخصوص. وبلغت هذه المعارضة حداً تجاوزت به كونها اختلافاً عارضاً حول السياسات والاقتصادية، بل أضحت حالة شاملة انتظمت قطاعات كبيرة من المجتمع الشبابي، استلهمت تجربة الربيع العربي في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. في الوقت نفسه فإن تجربة المعارضات العربية لا تبشر بخير؛ فالمعارضات القادمة للسلطة إما عبر دبابة المحتل أو عبر دعمه السياسي كانت سبب تدهور الأوضاع المريع في العراق وسوريا واليمن وليبيا. واتضح أن الدكتاتورية في العراق كانت أفضل من الديمقراطية الأميركية التي جاءت على ظهور الدبابات. وهكذا الحال في ليبيا واليمن.
تجارب المعارضات العربية
قبل أكثر من ثلاث عشرة سنة كانت المعارضة العراقية بمعظم فصائلها الجهوية والمذهبية تقف مؤيدة وداعمة للاحتلال الأميركي للعراق. ولم يفتح الله عليها بكلمة حق، بل أخذ عداؤها الشديد لنظام صدام حسين كل عقلها. وجاءت جحافل المعارضة على ظهور الدبابات الأميركية من المنافي في طهران ولندن وواشنطن وباريس.
وكان ما عُرف بـ«مؤتمر لندن» -الذي عقد بتوجيه أميركي في كانون الأول 2002 قد أسس لأسوأ سيناريو يمكن أن تفعله أي معارضة في العالم ببلدها وشعبها، حيث أُقرّت محاصّة سياسية لغنائم ركام الدولة العراقية ومؤسساتها الأمنية، على أساس طائفي وعرقي. وتحوّل العراق اليوم إلى بركة دماء في ظل اقتتال طائفي شرس بين السنة والشيعة، وعرقي بين العرب والأكراد، وديني بين المسلمين والمسيحيين، وأصبحت إيران اللاعب الرئيس في هذا البلد المتواري في لُجة التدخلات الأجنبية. أما في ليبيا فقد استعانت المعارضة كذلك بالقوات الأميركية وحلف الناتو لإسقاط القذافي، وانتهى الأمر إلى ما عليه البلاد اليوم من دمار وخراب وكانتونات ودويلات، بسبب تناقضاتها واختلافاتها، وعدم إلمامها بالعمل السياسي ولم يتحول الحكم الشمولي إلى ديمقراطية زاهية، ولم يحافظ حتى على ما تحقق في السابق من تنمية واستقرار. لقد كان الربيع العربي فرصةً تاريخية للمعارضات العربية لإثبات ذاتها وقد جاءتها الفرصة سانحة، إذ لم تكن لها يد في حراك بدأ شبابياً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها لم تجتز امتحاناً سياسياً جد عسير.
الحال من بعضه
أما بالنسبة إلى المعارضة السودانية التي تتطفل اليوم على حراك يصنعه الشباب؛ فإن المراقبين لا يكتفون بأسئلة من قبيل: كيف سيكون إسقاط النظام؟ وما هو البديل الذي يريده الشعب؟ بل هناك سؤال جوهري ومهم هو: ما الخطّ الفاصل بين إسقاط النظام دون إغراق الوطن في الدماء والفوضى وربما إزالته من خريطة العالم؟
ويأتي فشل العصيان قياساً على أهداف المعارضة التقليدية لأنها لم تصنع الفكرة من أساسها، بل حاولت بشكل انتهازي سرقة الفكرة وتبنيها والوصول إلى السلطة عبر عرَق الغير. فهي لا تملك استراتيجية كلية للتعامل مع النظام حتى من الناحية النظرية، كذلك لا يمكن أن نتصور وجود أدنى درجة من التنسيق بين أطرافها بشقيها العسكري والمدني. وكان للمعارضة في الفترة من 1990 إلى 2005 تجربة تنسيقية في جسم واحد باسم التجمع الوطني الديمقراطي الذي كان يتخذ من مصر وإريتريا مقراً له، لكن هذا التجمع فشل في إسقاط النظام وانهار تماماً مع توقيع أحد أقوى أطرافه المسلحة اتفاقية سلام مع الحكومة، وهو الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق. فتركت الحركة التجمع يتيماً واقتسمت السلطة مع حكومة البشير حتى تم انفصال جنوب السودان في  تموز 2011، ثم تحول لدولة فاشلة بسبب انتقال أدواء المعارضة للدولة الوليدة، حيث تحولت الحركة إلى حركات عرقية يقاتل بعضها البعض. واليوم المعارضة إما حركات مسلحة متمردة أو قوى مدنية، وهي أحزاب تقليدية مرتبطة بمصالح مع النظام لكنها تمسك عصا المعارضة من المنتصف، أبرزها حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي، والاتحادي الديمقراطي بزعامة محمد عثمان الميرغني. وفي الشق المسلح نجد حركات دارفور والحركة الشعبية/قطاع الشمال؛ وأصاب داء الانشطار حركات دارفور فضعفت فعاليتها الميدانية. وبعد نحو 13 عاماً من تاريخ تأسيس أولى الحركات المسلحة في دارفور، تناسلت هذه الحركات من رحم حركتين رئيسيتين هما «العدل والمساواة» و«تحرير السودان»، ليبلغ عددها رقماً فلكياً متجاوزاً أربعين حركة عبر أكثر من ثلاثين انقساماً.أما الحركة الشعبية فهي لا تستطيع إخفاء ارتباطها بدولة الجنوب، وهذا في حدّ ذاته طامة كبرى، فضلاً عن أنها تحمل فيروسات الفوضى الأمنية الموجودة في دولة الجنوب المنهارة. ومن أطراف المعارضة الحزب الشيوعي السوداني، الذي ظل يتسلق الأحزاب الأخرى ويزرع كوادره فيها، وهو ما يبدو ظاهراً في الحركة الشعبية/قطاع الشمال التي يعتبر أمينها العام كادراً شيوعياً معروفاً منذ المرحلة الجامعية. والتاريخ يروي أن هذا الحزب دبَّر مع فصائل أخرى من اليسار انقلاب أيار 1969، ثم انقلب على نظام مايو بمشاركته في انقلاب تموز 1971، وعرف السودان في ظل حكمه أبشع المذابح خاصة ما عرف بـ«مذبحة بيت الضيافة». وتجدر الإشارة إلى أن زعيم حزب الأمة المعارض -الذي يقيم في القاهرة منذ نحو ثلاث سنوات- أعلن قبل ساعات من موعد العصيان الثاني فشله «فشلاً ذريعاً»، ملقياً باللائمة على الحزب الشيوعي. وأكد أن ظهور اسم الحزب الشيوعي وشعاراته الانتهازية كفيل بجعل الشعب السوداني يقاطع كل أعمال المعارضة، ويفر منها فرار الصحيح من المجذوم.
ما بعد طوفان العصيان
هل تستوعب الحكومة والمعارضة درس الأيام الماضية؟ الحكمة تقول إن الأخطاء الصغيرة في السياسة تلد الأخطاء الكبيرة. وإن كان ممكناً إصلاح الأخطاء الصغيرة في مهدها، فإنه يستعصى إصلاح الكبير منها، وبينما يرتكب السياسيون الأخطاء الصغيرة تدفع الشعوب ثمن الأخطاء الكبيرة». والشجاعة الأعلى كعباً تقتضي أن تعتمد الحكومة النقد الذاتي، بل المراجعة العميقة لأدائها ومحاولة إعادة بناء ثقة الشعب فيها، وذلك لعمري رأس المال الوحيد الذي يؤسس عليه كل إصلاح. ولتتذكر الخرطوم أنها بعثت بوزير العدل ناقلاً نصائح دستورية للرئيس السوري، تقوم على أن يقدم تنازلات حقيقية للشعب تجنب البلاد الدمار والمواجهة الشاملة التي تبدو ماثلة اليوم. الأمر المقلق حقاً أن الأمل مفقود لدى الكثيرين من إصلاح ذاتي للنظام الحاكم بالنظر إلى محاولات سابقة غير جادة، فضلاً عن أن إتاحة الفرصة لمحاولات أخرى قد لا تكون ممكنة.