العدد 1506 /30-3-2022

في وقتٍ تشدُّ الحرب الروسية الأوكرانية أنظار العالم، وتحبس أنفاسه في انتظار ما سوف تتمخض عنه من خرائط سترسم معالم العالم الجديد، شكّلت ما سمّيت "قمة النقب" في الصحراء الفلسطينية المحتلة حدثا غير ذي شأن كبير، رغم أنها جمعت وزراء خارجية ست دول، أميركا وإسرائيل ومصر والإمارات والمغرب والبحرين. ومهما حاول وزير الكيان الصهيوني، يئير لبيد، وصف اللقاء بأنه "تاريخي"، إلا أن مجرّد صدور هذا الوصف عن لبيد يفرّغه من محتواه، بل ويجعل المتتبع يبحث عن الجانب التاريخي في هذا اللقاء. قد يكون هذا اللقاء "تاريخيا" من منظور إسرائيل، لأنها هي الرابحة منه، بما أن حضور أربعة وزراء عرب للاجتماع على جزء من أرض فلسطين التاريخية المحتلة تكريس لاعترافهم بهذا الاحتلال والتعاون معه، بل والتحالف معه.

وبما أن إسرائيل هي التي دعت إلى هذا اللقاء فهي التي حدّدت أجندته ووضعت جدول أعماله، ورسمت أهدافه الاستراتيجية التي تختلف حتما عن أهداف دول وشعوب وزراء الخارجية العرب المشاركين فيه. وأول أهداف الكيان الصهيوني من الاجتماع صرف أنظار سكان المنطقة عن متابعة الحرب في أوكرانيا وتداعياتها على اقتصاد دولهم وعلى حياتهم المعيشية، ولفت اهتمامهم إلى ما تعتبره "تهديدا إيرانيا" يقضّ مضجعها هي بالدرجة الأولى، لتوجيه جهود العرب وثرواتهم نحو حرب الاستنزاف التي تغذّيها بتعظيمها الخطر الإيراني الداهم، وشيطنتها له، عندما تكتسب طهران سلاحا نوويا، فيما تجلس هي منذ اغتصابها أرض فلسطين على أكبر خزّان للرؤوس النووية غير خاضعة للرقابة الدولية يمكن أن تنسف المنطقة كلها بضغطة زرّ واحدة، وتعتبر كل حديثٍ عن خطر هذه الرؤوس النووية مسّا بأمنها الاستراتيجي وتهديدا لوجودها!

عكس نظرائه العرب الذين كان كل واحدٍ منهم يغرّد وحده، ما بين من رأى في الاجتماع فرصة اقتصادية ومن عدّه رسالة للرد على المقاومة الفلسطينية التي وصفها، بدون خجل أو حياء، بـ "الإرهاب"، وما بين من بلغت به المحاباة اللزجة إلى حد وصف اللقاء بأنه فرصةٌ لبناء السلام، رغم أنه يدرك، قبل غيره، أن بلاده لم يسبق لها أن أطلقت رصاصةً واحدةً ضد المحتل الإسرائيلي، كان وزيرا خارجية إسرائيل وأميركا واضحيْن في ما يريدانه من الاجتماع، فقد صرح لبيد، بدون مواربة، بأن الهدف من هذا اللقاء بناء "هيكل إقليمي جديد من شأنه ردع إيران". وعلى الرغم من محاولة وزير خارجية مصر نفي وجود هذا التحالف، إلا أن الرسالة وصلت، وقد عبّرت عنها كلمات الوزراء الستة تصريحا أو تلميحا، فهذه القمة موجّهة ضد إيران، وبإيعاز وتحريض من إسرائيل التي تريد أن تصوّر إيران أكبر خطر في المنطقة. وتجاريها في هذا التوجه عواصم عربية، تتهم طهران بامتلاك أجندة توسعية في المنطقة وبالتدخل في الشؤون الداخلية لدول عربية، والسعي إلى إنتاج أسلحة نووية وامتلاكها. وعلى الرغم من أن هذه الاتهامات قديمة إلا أنها ليست مثبتة، وحتى إن وُجدت أحداث ووقائع تدفع إلى الاعتقاد بتحققها، فتجب قراءة تلك الأحداث والوقائع في سياقاتها التاريخية والجغرافية، والبحث عن دور قوى إقليمية عربية ودولية في تغذية تلك الأحداث، وإيجاد تلك الوقائع التي تعدّها إيران موجهة ضدها أو ضد حلفائها في المنطقة. ففي الخلافات السياسية والصراعات الاستراتيجية، لا يوجد أبيض وأسود فقط أو شرّير وخيّر. أما إيران التي تحاول إسرائيل أن تقدّمها أكبر خطر يتهدد المنطقة فهي لا تنفكّ تردّد أنها تلتزم بعلاقات حُسن الجوار مع جيرانها العرب، وأن برنامجها النووي مصمّم للأغراض السلمية. أما من يوصفون بحلفائها في المنطقة فما كانوا ليوجدوا أصلا لولا تدخلات قوى إقليمية عربية منذ عقود في بلدانهم في لبنان والعراق وسورية واليمن، فالوجود الإيراني في هذه الدول، أو بصيغة أدق وجود حلفاء لإيران في هذه الدول، جاء كرد فعل على تدخل قوى إقليمية عربية ودولية في شؤونها الداخلية، أكّدت فيها صراعات طائفية كانت نائمة، وأشعلت حروبا أهلية بين مناطقها، وحولت شعوبها إلى حطب لحروبها بالوكالة، بعدما كانت الشعوب المتقاتلة نفسها في ما بينها اليوم متعايشة ومتسامحة منذ وجدت هذه الدول.

أما وزير الخارجية الأميركي، فهدفه من القمة كان واضحا هو الآخر، يتمثل في حشد مزيد من الدعم لسياسات بلاده في مواجهة روسيا في حربها الأوكرانية، وتهدئة مخاوف إسرائيل بشأن الاتفاق النووي الوشيك مع إيران. أما تذكيره نظراءه العرب المطبّعين، في مفارقة صارخة ومؤلمة، بأن "اتفاقيات السلام الإقليمية ليست بديلاً عن السلام مع الفلسطينيين"، فهو ربما من باب الإحراج ليس إلا، مع أنه لم يعد هناك ما يحرج المطبّعين العرب.

إذا كان هناك من خطر داهم في المنطقة فهو الخطر الإسرائيلي الذي كان أحد أسباب زرع الشقاق والخلاف بين شعوبها ودولها منذ وجد هذا الكيان. أما إيران فقد عاشت وعاش شعبها إلى جانب العرب منذ آلاف السنين في سلام ووئام، والثقافتان الإيرانية والعربية تتقاطعان وتتكاملان. العنصر الدخيل، والوجود الشاذ، هو إسرائيل التي قامت على أرض دولة فلسطين التاريخية، وعلى حساب شعبها الذي حوّلته إلى شهداء ولاجئين ومبعدين ومشرّدين ومعتقلين. نعم.. هناك دولة تهدّد الأمن والاستقرار العربيين، وهذه الدولة هي إسرائيل، وهذا ما حاولت قمّة العار أن تزوره، لكن الذاكرة الجماعية لشعوب المنطقة لن تنسى ظلم هذا الكيان وطغيانه.

علي أنوزلا