العدد 1388 / 27-11-2019

بعد مرور أكثر من شهر على ولادة الحراك الشعبي ، إتسعت دائرة الإنفلات في الشارع وتعثر الحراك السياسي بين القوى الرئيسية الكبرى المكونة للمجلس النيابي الحالي . وبات واضحا وجود علاقة ما بين هذا التعثر السياسي الذي كاد أن يتحول الى جمود ، وبين عمليات التصعيد الجماهيري في الشارع المنفتح على تصادمات طائفية ومذهبية شتى تعيد أجواء الحرب الأهلية التي إنطلقت في عام ١٩٧٥ وتوقفت عسكريا في عام ١٩٩٠ . وكان من أبرز علامات هذا الجمود السياسي ، التأخر في إجراء الإستشارات النيابية ما شكل سابقة دستورية خطيرة لم يسبق أن حدثت من قبل في تاريخ الجمهورية اللبنانية منذ عام ١٩٤٣ وحتى هذه اللحظة السياسية الهامة.

وقد تضمن هذ التأجيل في إجراء الإستشارات النيابية الملزمة ، مخالفة لعرف دستوري قديم كان يقرن ما بين صدور قبول إستقالة رئيس الحكومة من قبل رئيس الجمهورية وبين تحديد موعد هذه الإستشارات . ولا يبدو أن في الساحة السياسية اللبنانية من يكترث بهذه المخالفة التي تمهد لولادة عرف جديد يسمح بالمماطلة في إجراء هذه الخطوة الدستورية الهامة في مسار السلطة التنفيذية السياسي والدستوري .وقد عمت حالة عدم الإكتراث تلك من يعنيهم الأمر برئاسة الحكومة من الناحية الطائفية والمذهبية حيث اقتصر الأمر على إصدار مواقف سياسية خجولة ليس إلا . وكان يفترض بمخالفة للعرف الدستوري من هذا القبيل أن تولد ردود فعل سلبية من قبل كافة المراجع الدينية والسياسية لكل من يعنيهم الأمر في الطائفة التي يفترض أن ينتمي إليها رئيس الحكومة اللبنانية .

وكان الإنفلات في الشارع قد وصل الى ذروته بسقوط ضحيتين على طريق صيدا - بيروت في محلة مفرق برجا من جراء قطع الطرق ووضع حواجز حديدية على الأوتستراد . وكان الإنفلات قد شهد مواجهات متكررة على معبر الرينغ في العاصمة وفي ساحتي الشهداء ورياض الصلح ، ومن ثم في بلدة بكفيا التي سقط فيها عدد من الجرحى ، وعلى طريق قصر بعبدا ، وحول مكتب التيار الوطني الحر في مدينة طرابلس الشمالية وحول خيمة معتصمي الحراك في مدينة صور الجنوبية . ما أكمل خارطة التوتر الشارعي من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب . وقد عاش اللبنانيون أوقاتا وساعات عصيبة على الأرض وعلى شاشات التلفزة وهم يشاهدون المواجهات التي تذكرهم بالحرب الأهلية القاسية والمؤلمة . وكان الحادث الذي حصل مساء الثلاثاء الماضي ( ٢٦ تشرين الثاني ٢٠١٩ ) بين منطقتي الشياح وعين الرمانة ذو دلالات نفسية خطيرة بفعل إنطباع الحرب الأهلية المشار إليها بطابع المحاور القتالية التي كان أبرزها آنذاك في العاصمة بيروت محور الشياح - عين الرمانة . وكانت هذه المحاور القتالية قد قسمّت العاصمة بيروت في تلك الحرب الى بيروت الغربية وبيروت الشرقية ، كما أنها قسمت مناطق أخرى وأقامت بينها محاور شبيهة بمحور الشياح - عين الرمانة . وقد إحتاجت هذه الصورة التقسيمية اللبنانية الى وقت كبير لإزالتها من أذهان اللبنانيين عموما وذلك لإعتبارات نفسية راكمتها مصائب الحرب الأهلية وويلاتها.

هل بدأت تلوح في الأفق معالم حرب أهلية جديدة ؟

لا ريب أن المخاوف كبيرة على هذا الصعيد ، ويعاكسها رؤية بعض العارفين بأن الحرب الأهلية كي تشتعل تحتاج الى قرار خارجي والى تمويل خارجي لا يبدو أنهما متوافران حتى الآن . وأن الإستياء الأميريكي والغربي من نفوذ حزب الله في لبنان بالإضافة الى الإستياء العربي الرسمي لم يولدا حتى هذه الساعة قرارا من هذه الجهات بإشعال فتيل الحرب الأهلية التي لا تشتعل من دون موافقة هذه الأطراف على الشروع بخطوات تحتاجها من تسليح وتدريب وتمويل ميليشاوي متنوع . وذلك بغية تجنب المحظور والمتمثل في إحتمال توسيع رقعة نفوذ حزب الله في لبنان ومن خلفه النفوذ الإيراني وبفعل إمتلاك الحزب كافة القدرات العسكرية والأمنية التي تؤهله لمزيد من السيطرة على الوضع في لبنان.

وفي مقابل هذه النظرة التي تستبعد إمكانية إندلاع الحرب الأهلية ، توجد مخاوف كبيرة لدى مجموعة أخرى من العارفين ( والعارفون كثر في لبنان كما نعلم ) ، من إحتمال الإنزلاق الى تلك الحرب المذمومة والممجوجة بفعل تصاعد وتراكم التوترات الداخلية والإنفلات الشارعي المتميز .

في نهاية المطاف ، وأمام ما نشاهد على الشاشات بشكل شبه يومي من صدامات سأسمح لنفسي بالقول التالي : لو أن الساسة في بلدي كانت في قلوبهم ذرة حقيقية من حب الوطن لكانوا نزلوا بأشخاصهم وبأيديهم ليطفئوا النار ويبعدوا اللهب عن هذه الأرض اللبنانية التي شبعت حروبا ومظالم ونزاعات وتخلف وجهل وحماقة في السلوك السياسي الصبياني الذي يكاد أن يعم عقول معظم الساسة في بلاد الأرز والصنوبر والحور والشربين والسنديان والكينا والبلوط ...

ايمن حجازي