العدد 1557 /5-4-2023

أرجى آية عند الصحابة

حرص الصحابة رضوان الله عليهم على التفاعل العملي مع آيات القرآن، ومن ذلك أنهم شغلهم البحث عن أي آيات القرآن تبعث عظيم الرجاء في قلب المؤمن، فورد عنهم في ذلك فوائد عظيمة، وكل منهم قد وضع أيدينا على آية من آيات الرجاء، ما أشد حاجتنا لاستشراف رحمة الله وكرمه ونحن نتلوها أو نسمعها، فمن ذلك:

قال القرطبي : «حُكِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تَذَاكَرُوا الْقُرْآنَ:

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَرَأَتُ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَلَمْ أَرَ فِيهِ آيَةً أَرْجَى وأحسنَ من قوله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ﴾، فَإِنَّه لَا يُشَاكِلُ بِالْعَبْدِ إِلَّا الْعِصْيَانُ، وَلَا يُشَاكِلُ بِالرَّبِّ إِلَّا الْغُفْرَانُ.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَرَأَتُ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلى آخِرهِ، فَلَمْ أَرَ فِيهِ آيَةً أَرْجَى وَأَحْسَنَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ﴾ قَدَّمَ غُفْرَانَ الذُّنُوبِ عَلَى قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.

وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَرَأَتُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَلَمْ أَرَ آيَةً أَحْسَنَ وَأَرْجَى مِنْ قوله تَعَالَى: ﴿نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: قَرَأَتُ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَلَمْ أَرَ آيَةً أَحْسَنَ وَأَرْجَى مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:﴿قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.

قال القرطبي: وَقَرَأَتُ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَلَمْ أَرَ آيَةً أَحْسَنَ وَأَرْجَى مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾».

وأخرج الترمذي عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ قَالَ: «مَا فِى الْقُرْآنِ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.

أخرج أحمد عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى حَدَّثَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ وَسَأُفَسِّرُهَا لَكَ يَا عَلِيُّ ﴿مَا أَصَابَكُمْ﴾ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ وَاللَّهُ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَيْهِمْ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ تَعَالَى أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ عَفْوِهِ».

أخرج أبو داود في الزهد والطبري وابن أبي حاتم عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، قال: اتَّعَد عبدُ الله بنُ عَمْرٍو، وعبدُ الله بنُ عبَّاسٍ أنْ يجتمعا، قال: ونحنُ يومَئِذٍ شَبَبَةٌ (شبابٌ متقاربون في السنّ)، فقال أحدُهما لصاحبه: أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ أَرْجَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؟

قَالَ عبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّه﴾.

قَالَ: فَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ: «أَمَا إِنْ كُنْتَ تُقُولُ إِنَّهَا (يعني آية رجاء)، وَإِنَّ أَرْجَى مِنْهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْلُ إِبْرَاهيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾، فَرَضِيَ مِنْ إِبْرَهِيمَ قَوْلَهُ: ﴿بَلَى﴾ فَهَذَا لِمَا يَعْرِضُ فِي الصُّدُورِ، وَيُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطَانُ».

أخرج ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَرْجَى؟ (عند ابن كثير: أَرْخَصُ) قَالَ: «قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ عَلَيَّ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ».

قال القرطبي: قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: «أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالًى ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾». ذلك أنه يعدهم بالمغفرة على ظلمهم، ولم يقل (على إحسانهم)!.

ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم والواحدي بسند مرسل ضعيف عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلا عَفْوُ اللَّهِ وَتَجَاوُزُهُ مَا هَنَأَ أَحَدًا الْعَيْشُ، وَلَوْلا وَعِيدُ اللَّهِ وَعِقَابُهُ لاتَّكَلَ كُلُّ أَحَدٍ».

قال أبو حيان التوحيدي في البحر المحيط: قَالَ ابنُ عباسٍ في قولِه تعالى ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾: «هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي القُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مَا كَذَبَ وَتَوَلَّى، فَلَا يَنَالُهُ شَيْءٌ مِنَ الْعَذَاب».

أخرج الطبراني عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَذْنَبَ أَصْبَحَ عَلَى بَابِهِ مَكْتُوبٌ: أَذْنَبْتَ كَذَا وَكَذَا، وَكَفَّارَتُهُ كَذَا مِنَ الْعَمَلِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَتَكَاثَرَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ».

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «مَا أُحِبُّ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعْطَانَا ذَلِكَ مَكَانَ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾».

وأخرج الطبري عنه قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمْ ذَنْبًا أَصْبَحَ قَدْ كُتِبَ كَفَّارَةُ ذَلِكَ الذَّنْبِ عَلَى بَابِهِ, وَإِذَا أَصَابَ الْبَوْلُ شَيْئًا مِنْهُ قَرَضَهُ بِالْمِقْرَاضِ».

فَقَالَ رَجُلٌ: لَقَدْ أَتَى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَيْرًا.

فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «مَا آتَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا مِمَّا آتَاهُمْ, جَعَلَ اللَّهُ الْمَاءَ لَكُمْ طَهُورًا, وَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ (آل عمران 135)، وَقَالَ: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾».

ونستكمل في الدرس التالي مع أهل العلم من بعد الصحابة رضوان الله عليهم.

د. عبد الرحمن البر