العدد 1559 /19-4-2023

علي الصلابي

قبل معركة عين جالوت، لم تتعرض دولة الإسلام لأوقات عصيبة وعواصف منذرة ورياح مرعبة مثلما تعرضت في القرن السابع الهجري، حين دمرت جيوش المغول بقيادة جنكيز خان حواضر الإسلام الكبرى في المشرق الإسلامي، وسفكت دماء المسلمين، وأتت على معالم الحضارة والمدنية، ولم تستطع قوة إسلامية أن توقف هذا الزحف الكاسح، وانهارت الجيوش الإسلامية وتوالت هزائمها، وتتابع سقوط الدول والمدن الإسلامية كأوراق الشجر في موسم الخريف. وأطمع ضعف المسلمين وخور عزائمهم المغول في أن يتطلعوا إلى مواصلة الزحف تجاه الغرب، وإسقاط الخلافة العباسية وتقويض دعائمها، ولم تكن الخلافة في وقت من الأوقات أضعف مما كانت عليه وقت الغزو المغولي، فخرج هولاكو سنة 651 هجرية (1253 ميلادية) على رأس حملة جرارة، تضم 120 ألف جندي من خيرة جنود المغول، المدربين تدريبا عاليا على فنون القتال والنزال، والمزودين بأسلحة الحرب وأدوات الحصار، تسبقهم شهرتهم المرعبة في القتل وسفك الدماء، ومهارتهم الفائقة في الحرب، وشجاعتهم وقوة بأسهم في ميادين القتال (ماذا تعرف عن معركة عين جالوت، إسلام أونلاين).

وقعت معركة عين جالوت يوم 25 رمضان سنة 658، الموافق الثالث من سبتمبر/أيلول 1260 ميلادية، حيث استطاع فيها الجيش المسلم إنهاء الخطر المغولي الذي هدد العالم عشرات السنين. إذ تعرضت دولة الإسلام لأوقات عصيبة في القرن السابع الهجري حين دمرت جيوش التتار بقيادة جنكيز خان حواضر الإسلام الكبرى في المشرق الإسلامي، وسفكت دماء المسلمين وهدموا المساجد ومزقوا المصاحف وذبحوا الشيوخ وقتلوا الأطفال وعبثوا بالأعراض، حيث سقطت الدولة الخوارزمية بيد التتار ثم تبعها سقوط بغداد بعد حصار دام أياما فاستبيحت المدينة وقتل الخليفة المستعصم بالله فسقطت معه الخلافة العباسية، ثم تبع ذلك سقوط جميع مدن الشام وفلسطين وخضعت لهولاكو.

كان السلطان المملوكي سيف الدين قطز (محمود بن ممدود الخوارزمي) قد استلم حكم مصر بعد عدة صراعات دموية بين نهاية الأيوبيين وبداية المماليك، انتهت بانتزاع الحكم من نور الدين وريث السلطان المعز عز الدين أيبك، إذ كان حينها الوريث الجديد لا يزال يلعب مع الصبية في حين كانت الأخطار محيطة بالدولة من كل اتجاه.

وكانت الدولة قد ضاقت بضعفها بعد سلسلة الخيانات والنزاعات وبعد حكم الصبي الذي دمر ولم يصلح، ومع كل خبر جديد عن وحشية التتار كانت الأحوال تزاد اضطرابا وقلقا، خاصة بعد وصول أخبار سقوط بغداد والدولة الخوارزمية وماحل بهما وبسلاطينهما، وحاول الأيوبيون وعلى رأسهم الناصر حاكم دمشق الاتفاق مع هولاكو ضد قطز من أجل السيطرة على مصر والدخول تحت راية هولاكو وفشل في ذلك، وسُلمت الشام بذُل وخوف للمغول، وهرب الناصر إلى ظل قطز، لكنه لم يدخل مصر بل عاد إلى سيناء، ثم إلى الكرك، ثم تم أسره واقتياده إلى التتار.

جمع قطز الأمراء واتفقوا على قتل رسل التتار، فقُبض عليهم، وأمر بقتلهم وتعليقهم على أبواب القاهرة، وأُشيع الخبر بين الناس من أجل رفع روحهم المعنوية، وردّ على هولاكو بخطاب أقوى وأشد بلاغة

رسالة هولاكو للسلطان قطز والرد عليها

بدأ قطز بتجهيز الجيش والتمهيد للأهالي بالحرب فقد لاقى كثيرا من الرفض والخوف من الحرب مع التتار بعد ما وصل إلى مسامعهم، وهنا كان قد وصل مكتوب هولاكو إلى قطز يهدده ويطلب منه الاستسلام وتسليم مصر، وقال فيه: "من ملك الملوك شرقا وغربا القان الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء يعلم الملك المظفر قطز، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمون بأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك، يعلم الملك المظفر قطز، وسائر أمراء دولته وأهل مملكته، بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه. فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب، فأي أرض تأويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع… الخ فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاها ولا عزا، ولا كافيا ولا حرزا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفنا إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم، والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى"، وختم تهديده بشعر:

ألا قل لمصر ها هولاكو قد أتى.. بحد سيوف تنتضى وبواتر

يصير أعز القوم منا أذلة.. ويلحق أطفالا لهم بالأكابر

جمع قطز الأمراء واتفقوا على قتل رسل التتار، فقُبض عليهم، وأمر بقتلهم وتعليقهم على أبواب القاهرة، وأُشيع الخبر بين الناس من أجل رفع روحهم المعنوية، وردّ على هولاكو بخطاب أقوى وأشد بلاغة يخبره فيه: "إننا لا نستسلم أبدا وسنخوض الحرب معكم، وإن عشنا فسعيدا، وإن متنا فشهيدا، ألا إن حزب الله هم الغالبون".

تم اللقاء على أرض المعركة صباح يوم 26 رمضان 658هـ، امتلأ الوادي بالجنود والناس الذين كانوا قد توافدوا متطوعين من أجل الشهادة من كل بلاد الشام

بداية المعركة

خرج السلطان المظفر قطز بجيشه يوم 25 رمضان 658هـ (الثالث من سبتمبر/أيلول 1260م)، وبصحبته الملك المنصور ملك حماة، وكان قد أمر الأمير ركن الدين بيبرس أن يقود عساكره ليكونوا في مقدمه الجيش إلى غزة كي يعرف أخبار العدو، بالإضافة لإيهام العدو بالعدد القليل للجيش، ثم حدثت معركة في غزة وتم القضاء على التتار الموجودين بها ولحق به قطز مع القسم الأكبر من الجيش وأخذ بيبرس يناوش ويراوغ قوات التتار ليخفي وجود الجيش الكبير، ثم انضمت قوات الجيش الاستطلاعية إلى القوات الكبيرة في الشام في منطقة عين جالوت، وهي قرية صغيرة تقع بين بيسان ونابلس في فلسطين.

كان كتبغا نويان نائب هولاكو موجودا في الشام، وجمع جيشه ليواجه المسلمين، واستشار صاحب حمص بالدخول أو انتظار الإمداد من هولاكو وجيشه، ولكنه قرر الدخول في الحرب وكان جيش المسلمين قد اكتمل وتجمع عدد كبير من الشام والعراق وباقي الدولة الخوارزمية والترك وغيرهم الذين خرجوا من أجل الجهاد في سبيل الله.

وتم اللقاء على أرض المعركة صباح يوم 26 رمضان 658هـ، امتلأ الوادي بالجنود والناس الذين كانوا قد توافدوا متطوعين من أجل الشهادة من كل بلاد الشام.

ألقي السلطان بخوذته على الأرض تعبيرا عن اشتياقه للشهادة وعدم خوفه من الموت وأطلق صيحته الشهيرة التي تتردد حتى الآن (واإسلاماه واإسلاماه)

مشهد بطولة السلطان قطز في المعركة

حينما أحاطت قوات المسلمين بالتتار إحاطة السوار بالمعصم في عين جالوت، وتم حصار قوات التتار داخل السهل، أظهرت ميمنة التتار قوة وتفوقا وبدأت تضغط على الجناح الأيسر للقوات الإسلامية، وبدأت قوات المسلمين تتراجع تحت الضغط الرهيب للتتار، وبدأ التتار يخترقون الميسرة الإسلامية والشهداء يتساقطون في أرض الموقعة، ولو أكمل التتار اختراقهم للميسرة لاستطاعوا الالتفاف حول الجيش الإسلامي وبذلك تتعادل الكفتان.

وكان قطز يرى المعاناة التي تعيشها ميسرة المسلمين فدفع إليها بقوات احتياطية، ولكن الضغط التتري استمر وشهداء المسلمين يتساقطون، وبدأ بعضهم يشك بالنصر، لم لا؟ فالكل يعرف أن التتار جيش لا يهزم، فلم يجد السلطان قطز في هذه اللحظة إلا حلا واحدا لا بديل عنه، ألا وهو أن ينزل إلى المعركة بنفسه في هذا الوقت، إذ لا بد له أن يثبّت أقدام جنوده بالطريقة التي اعتادها معهم، وهي طريقة القدوة، وبها يوضح لجنوده الجهاد في سبيل الله والموت من أجل رفع راية الإسلام "نحن نريد الآخرة وهم يريدون الدنيا، وشتان بين الفريقين".

ألقي السلطان بخوذته على الأرض تعبيرا عن اشتياقه للشهادة وعدم خوفه من الموت وأطلق صيحته الشهيرة التي تتردد حتى الآن "واإسلاماه واإسلاماه"، والتي قلبت موازين المعركة، حيث ألقى قطز بنفسه وسط الأمواج المتلاطمة من البشر وفوجئ الجنود بوجود السلطان المظفر وسطهم يعاني ما يعانون ويشعر بما يشعرون ويقاتل كما يقاتلون، هنا التهب حماس الجنود وهانت عليهم جيوش التتار وحملوا عليهم وانطلقوا في جسارة نادرة يصدون الهجمة التترية البشعة، واشتعل القتال في سهل عين جالوت وعلت الأصوات بالتكبير، ولجأ المسلمون إلى ربهم في هذا اليوم الذي لن ينسى في تاريخ البشر إلى قيام الساعة.

وقاتل قطز قتالا عجيبا، ثم صوب أحد التتار سهمه نحو قطز فأخطأه، ولكنه أصاب الفرس فمات، فترجل السلطان وظل يقاتل على الأرض، وقاتل ماشيا لا خيل له، وما تردد لحظة، وما نكص على عقبيه، وما حرص على حياته، ورآه أحد الأمراء وهو يقاتل ماشيا فجاء إليه مسرعا، وتنازل له عنه فرسه إلا أن قطز رفض ذلك، وقال: ما كنت لأحرم المسلمين نفعك!!

وكانت هذه المعركة من أبرز المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي هي الأولى التي خسر فيها التتار، وبهذه الخسارة الفادحة تم ضم وتوحيد العالم الإسلامي تحت حكم المماليك لأكثر من 270 عاما، فقد كان لمعركة عين جالوت أثر عظيم في تغيير موازين القوة بين القوى العظمى المتصارعة في منطقة الشام، فقد تسببت خسارة التتار في المعركة من تحجيم قوتهم، فلم يستطع القائد التتاري هولاكو الذي كان مستقرا في تبريز من التفكير في إعادة احتلال الشام مرة أخرى، وكان أقصى ما فعله ردا على هزيمة قائده كتبغا هو إرسال حملة انتقامية أغارت على حلب.

ماذا بعد الانتصار؟

عودة ديار الشام إلى السيادة الإسلامية وكسـر أسطورة المغول في نفوس المسلمين، بعد أن يئست بعض القلوب من النصر على التتار لاستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، ولأنهم ما قصدوا إقليما إلا فتحوه ولا عسكرا إلا هزموه.

إقرار شرعية المماليك في الشام فامتد سلطانهم من نهر الفرات شرقا إلى برقة غربا، ومن حلب شمالا إلى تخوم بلاد النوبة جنوبا، وتحولت الشام إلى ولايات أو نيابات كبرى كلها خاضعة لسلطانهم.

انتهاء الدولة الأيوبية وخضوع من تبقى منهم للسيادة المملوكية مثل الملك المنصور في حماة وأبنائه من بعده حتى النصف الأول من القرن الثامن الهجري، والأشرف موسى الذي رجع عن تحالفه مع المغول وأقره المماليك على ولاية حمص.

وقف زحف التمدد المغولي في غرب العالم سواء في شمال أفريقيا والمغرب أو في أوروبا، وهذا ما أقرته بعض المصادر الغربية.

توطد العلاقات بين المماليك ومغول القفجاق المسلمين في شمال بحر قزوين، وتحالف الفريقين ضد عدوهما المشترك المتمثل في أسرة هولاكو بإيران والعراق.

أدت هزيمة المغول في عين جالوت إلى فشل سياسة الصليبيين في الشـرق الأدنى القاضية بالتحالف مع المغول ضد المسلمين، وإلى تعجيل زوال الإمارات الصليبية في بلاد الشام في ما بعد.