العدد 1365 / 12-6-2019

جرت العادة في إنكلترا أن يذاع على الناس منشور ارتقاء الملك الجديد، وإليك نص منشور ارتقاء جورج السادس على العرش بعد أن تنازل عنه إدوارد الثامن:

"نحن أعضاء مجلس الملك السابق، المؤلف من الأعيان والرؤساء الروحيين، والأشراف واللورد محافظ لندن، والمواطنين، نعلن الآن بصوت واحد وبإخلاص صادر عن الفم والقلب، أن صاحب الجلالة البرنس ألبرت فريدريك أرثور جورج، قد أصبح ملكنا الشرعي الوحيد جورج السادس بنعمة الله ملك بريطانيا وإيرلندا، والممتلكات المستقلة فيما وراء البحار حامي ذمار الدين، وإمبراطور الهند، وإننا نعلن للملأ أن علينا لجلالته الطاعة والمحبة والاحترام، فنسأل الله أن يحرس مَلِكنا جورج السادس، وأن يُباركه إلى سنين مديدة؛ ليحكم علينا".

يظهر من هذا أن ملك إنكلترا العظمى التي لا تغرب الشمس عن ممتلكاتها، هو في الوقت نفسه حامي ذمار الدين، وأن هذه الدولة المترامية الأطراف لم تزل بعدُ متمسكة بالدين، يدلنا على ذلك ما حدث للملك السابق، فإن شذوذًا في سلوكه عن آدابه التي يجب أن يتصف بها بصفته رئيسًا للدين، دعا رئيس أساقفة كانتربوري إلى أداء النصح والإرشاد له، ولَمَّا لم يَنثنِ عن عزمه ثارَت ضجة حوله وصخب كان فيهما نهاية عرشه.

وقد أرادوا أن يصوروا هذه القضية بخلاف حقيقتها، فقالوا عنها: إنها خلاف دستوري، يريد الملك أن يتزوج بالتي يحب، ولو كانت من عامة الناس، والدستور لا يُبيح له ذلك، غير أن الواقع ليس كما يقولون؛ فالدستور لا يقيد زواج الملك بقيد، كما صرح بذلك رئيس الوزراء البريطاني، وإنما ساء البريطانيين أن يستهتر الملك بعاداتهم وتقاليدهم، ورأوا في سلوكه(وهو رئيس دينهم) خروجًا على مبادئه إن هو أبقى المرأة التي أحبها كخليلةٍ عنده، أو تزوج بها؛ لأنها مطلقة، وطلاقها كان نتيجة تواطؤ لم يَخفَ على الناس سرُّه، فكان أول من نبَّهه لهذا الأمر رئيس أساقفة لندن، ثم تلاه بعد ذلك بلدوين، وهما يعبران عن شعور جميع السكان البريطانيين.

حدا بي للكتابة في هذا الموضوع ما أراه من استهتار الكثيرين بأمر الدين، حتى صار المتدين تحمر من الخجل وجنتاه، ويَبتل بالعرق جبينه إذا هو قام لأداء الصلاة أو للقيام بواجب ديني، وربما صار أضحوكة في فم بعض الملاحدة والزنادقة الذين يَستبيحون المنكرات، ويستحلون المحرمات، ثم يحظرون على الناس الفضيلة، ويستنكرون عليهم الصلاح، ويَحسبون التمسك بالدين جحودًا، والتعلق بالأخلاق نُكرانًا للمدنية وجمودًا.

على رِسلكم أيها المستهترون بالدين، فإن استهتاركم به هو أيضًا استهتار بقوميتكم وبوطنكم، فإن من لا يقوم بواجبه نحو ربه الذي خلقه في أحسن تقويم، وأنعم عليه بنعم لا يقوم بواجب شكرها اللسان، ولا يحصي عددها ووصفها البيان، لا يقوم بواجبه نحو وطنه وأُمته وبلاده، والدليل على ذلك ما ألفناه من كثير من الشباب الذين ذهبوا للدراسة في بلاد الغرب، فإنهم تشبَّعوا بالاستهتار بالدين، حتى طغى ذلك على علمهم الذي تعلَّموه، فباتوا يرون كل شيء من عادات قومهم حقيرًا، وكل أمر مرذولًا، وعوضًا من أن يقوموا بما يجب عليهم نحو وطنهم لإصلاح شأنه، ورفع مستواه، فإنهم أعملوا معاولهم في هدمه وتحطيم عقائد أبنائه، بأعمالهم الشاذة، وأقوالهم الطائشة، وسفاسف أمورهم، وباطل نزقهم، وقليلون هم الذين لبثوا محافظين على دينهم وقوميتهم في ديار الغرب .

ليقل لنا الذين درسوا في باريس وغيرها: أين الأعمال الجليلة التي قاموا بها نحو بلادهم؟ وأين المؤلفات النافعة التي ألفوها؟ وأين الكتب القيمة التي ترجموها؟ وأين المصانع التي افتتحوها؟ ستجد منهم - إن سألتهم مثل هذا السؤال - صمتًا طويلًا.

أعرف طائفة من هؤلاء الناس لم تجمع بينهم إلا رابطة الرذيلة والفجور، فهم كل ليلة في ملهى أو مكان فسق أو ماخور، وهم بعد ذلك قد نصَّبوا أنفسهم أساتذة، يتلقى عنهم تلاميذهم العلوم والآداب والفضيلة! أفلا يخجلون؟ أفلا يستحون؟ لقد نضَب مَعين الحياء من وجوههم، فاسترسلوا في غوايتهم وضلالهم.

وأعرف آخر كان لي صديقًا قبل أن يذهب إلى باريس، وقد صادَفني في الطريق بعد مجيئه، فسلَّم عليّ وسألني عن وجهتي، فقلت: الجامع، وكان الوقت قبيل صلاة الجمعة، فدعوته ليصلي معي، فنظر إليّ نظرة بطرف عينه، علمتُ منها أن صاحبي لا يهتم لما أهتمُّ به، وأنه يستهزئ مني، ويسخر من دعوتي، ثم هذا ما صنعت باريس بهذا الشاب وأضرابه، لقد أفقدتهم دينهم، وجعلتهم يستقبحون قومهم وعنصرهم، ثم لم تُفِدهم إلا قشورًا من العلوم، لم يستفيدوا ولم يُفيدوا منها شيئًا.

أنا لا أنكر على فريق من شبابنا (وهو نادر) أنه قام بالواجب الملقى على عاتقه خير قيام؛ فإن هؤلاء لا أعنيهم بكلمتي هذه، بل إنني أدعو إلى تقديرهم وشكرهم؛ ليزداد عددهم؛ ويكثر السالكون طريقهم ..

وليفهم الشباب المستهترون أنه ليس من العيب أن يظهر الإنسان بدينه أينما كان وحيثما حل، فإن أحدًا لا ينكر رُقي الأمة الإنكليزية، ومع ذلك فإن أكبر رأس فيها هو رئيس مذهبها الديني الذي تَعتنقه وتخلص له، فليكن هذا مشجعًا لنا إذا كنا نريد أن نستأنس بالغرب في جميع أعمالنا وشؤوننا.