العدد 1398 / 29-1-2020

د / أنس الغنام

من أهم ما حرص عليه الإسلام في تعاليمه وتشريعاته هو بناء الشخصية المستقلة للمسلم ، وهذه الاستقلالية تمكن المسلم من عدم ذوبان شخصيته في شخصيات المخالفين له في الدين، سواء في عقائدهم أو عباداتهم أو سلوكياتهم0

فالمسلم هو حامل أعظم رسالة ، وأكمل دين ، وقد اختاره الله – عز وجل – لكي يكون أمينا على هذا الدين ، الذي هو سبيل السعادة في الدنيا والآخرة ، وهذا يتطلب من المسلم أن يكون ذا شخصية مستقلة متفردة حتى يستطيع نشر الحق الذى معه ، وتعليمه لكل من حاد عن طريقه ، وبعد عن سبيله0

فالمسلم ينبغى أن يكون هو رائد الطريق ، وقائد السبيل ، لا تذوب شخصيته في الآخرين ، وإنما هم الذين يذوبون فيه ، ينبغي أن يكون متبوعا لا تابعا ، وقائدا لا مقودا ؛ لأن معه الحق والهدى واليقين ، معه الحق الذى تحتاجه البشرية في مسيرها ، معه الهدى الذي ينقذها من ضلالات الأفكار ومتاهات العقول ، معه اليقين الذي يخلصها من شبهات الشكوك ، وأوهام الظنون0

وإذا ضاعت شخصية المسلم ، وأصبح مقلدا للآخرين ضاع الحق الذى معه ، وذهب الدين الصحيح الذي يحمله ، لذلك كانت أعظم جناية على الدين هو أن ينسلخ المسلم من شخصيته الإسلامية ، وهويته الإيمانية ، ويصبح مقلدا لمن يخالفه في الدين سواء في العقائد أو العبادات أو السلوك 0

لذلك حرص الإسلام في كثير من تشريعاته على تحقيق الاستقلالية في شخصية المسلم ، وترسيخها في عقله وفكره ، وغرسها في قلبه وضميره ، وهذه التشريعات يمكن تقسيمها إلى عدة محاور ولنبدأ بأول محور منها وهو :

- الاستقلال في المسؤولية:

يعلمنا الإسلام أن كل إنسان مسؤول عن أعماله ، وأنه سيحاسب على ما اقترفته يداه ، وجنته جوارحه ، قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) المدثر 38 ، وأن كل إنسان سيحمل وزر نفسه ولن يحمل أحد عنه وزره ، أو يُسأل عن عمله حتى ولو كان قريبا له قال تعالى (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى000 الآية) فاطر 18 ، وأن علاقات النسب وروابط القربى لا قيمة لها يوم القيامة ، وأنها لا تغني عن صاحبها شيئا ، قال تعالى (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ) المؤمنون 101 ، وأن كل واحد سيقف أمام ربه وحده ، وسيحاسب وحده ، فلا حميم يشفع له ،ولا صديق يُطاع من أجله ، قال تعالى{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}مريم 93-95 0

- الاستقلال في الاعتقاد :

الإسلام لا يريد من المسلم أن يلقي بزمام عقله لغيره ، وأن يكون تابعا له يقوده حيث يشاء ، بل يريد منه أن يكون مستقلا برأيه ، معتدا بفكره ، لا يقول إلا ما يراه صحيحا ، ولا يعتقد إلا ما يظنه صوابا ، لذلك جاء كثير من آيات القرآن الكريم تذم التقليد ، وتنهى عنه ، بل وتأمر بإعمال العقل والفكر ، والإيمان بما يؤكده الدليل ، وأن الإنسان الحر هو الذي ينبع اعتقاده من عقله ، وينبثق رأيه من ضميره0

قال تعالى في ذم الذين يقلدون آباءهم في الكفر على حساب الدين الصحيح ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) الزخرف 22 ، كما نعي عليهم تقليد هؤلاء الآباء مع ضعف عقولهم ، وظهور ضلالهم ،فقال : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ) البقرة 170

إن كل هذه التعاليم لها أثر كبير في ترسيخ الاستقلالية في شخصية المسلم ، وبناء عقله وضميره عليها ، فيكون مستقل الفكر والاعتقاد لا يقلد غيره ، ولا يسلم عقله له ، بل يكون رائده الدليل ، وقائده البرهان ، وإذا كان الإسلام جعل لغير المسلم حرية الاعتقاد في أخطر قضية وهي قضية الدين ، فما بالك بالأفكار والقضايا الأقل شأنا والأهون خطرا ، إن هذه رسالة للمسلم أن لا يقلد أفكارا واردة عليه من الشرق أو الغرب بسبب انهزاميته ، أو انبهاره بما عندهم من تقدم وحضارة ، بل عليه أن يقبل ما يتوافق مع ديننا ، ويرفض ما يعارضه ، وكما قيل ( الحكمة ضالة المؤمن فإذا وجدها فهو أحق الناس بها ) ، لكن من المهم أن تكون هذه الحكمة متوافقة مع شرعنا غير مصادمة له

- الاستقلال في العبادة:

حرص الإسلام أن يجعل المسلم مستقلا تمام الاستقلال في عبادته ، فلا يقلد ، سواء كان هذا في الصلاة أو الصوم أو الحج ، لذلك وردت أحاديث كثيرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيها توجيه للمسلمين بأن يخالفوا غير المسلمين في هذه العبادات ، حتى يحقق لهم الشخصية المستقلة البعيدة عن التشبه بالآخرين وتقليدهم ، ولنبدأ أولا بـ

أ – الصلاة :

ففي الأذان للصلاة رفض النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون بالبوق ؛ لأنه يشبه فعل اليهود ، إلى أن شرع الله – عز وجل- له الأذان عبر رؤية رآها أحد أصحابه ،فعَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنْ الْأَنْصَارِ .

كما أمرنا – صلى الله عليه وسلم - أن نصلي في النعال والخفاف مخالفة لليهود فقال: ( خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم ) .

ب- الصوم :

أما في الصوم فقد أمرنا بالسحور حتى نخالف اليهود والنصارى ، فقال – صلى الله عليه وسلم - قال فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أَكْلَةُ السَّحَر " .

وعندما صام يوم عاشوراء ؛ لأنه اليوم الذى نجى الله – عز وجل – فيه موسى عليه السلام من فرعون ، فإنه شرع لنا أن نصوم يوما قبله ، أو بعده لكي نخالف اليهود في صيام هذا اليوم ، فعَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ» قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ([7])0

ج – الحج:

أما في الحج فقد خالف النبي – صلى الله عليه وسلم – المشركين فقد كانوا يقفون بمزدلفة ، أما هو فقد خالفهم فوقف بعرفة ، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الحُمْسَ، وَكَانَ سَائِرُ العَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ يَقِفَ بِهَا، ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا» فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] ([8])0

- الاستقلال في السلوك:

حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يعلم المسلمين الاستقلال في سلوكهم ، وأن لا يكونوا مقلدين لغيرهم بل ينبغى أن يكون سلوكهم نابعا من دينهم ، ملتزما بشرائعه ، بعيدا كل البعد عن التقليد للغير ، والسير في ركابه0

ومن ضمن السلوكيات التى أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه بمخالفة اليهود فيها المحافظة على نظافة البيوت فقال صلى الله عليه وسلم :" طَهِّرُوا أَفْنِيَتَكُمْ ، فَإِنَّ الْيَهُودَ لَا تُطَهِّرُ أَفْنِيَتَهَا ".

وتحقيق الاستقلال في السلوك لا يتعلق فقط بمخالفة غير المسلم ، وإنما يتحقق أيضا بمخالفة المسلم في سلوكياته الخاطئة ، وعدم اتباعه فيما تبين له عدم صوابه ، وفي هذا ورد قول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ".

- الاستقلال في المظهر:

لقد أراد الإسلام من المسلم أن يكون مستقلا في مظهره عن غير المسلم ، فلا يقلده في ملبس ، ولا يتبعه في هيئة. وبالطبع المقصود هنا هو مخالفة غير المسلم في الملبس والهيئة اللتين أصبحتا من خصائص غير المسلم ، مثل لبس ملابس القساوسة والرهبان الخاصة بهم ، أو يلبس طاقية اليهود ويضفر شعره ضفيرتين كما هو ظاهر من هيئتهم ، وعلى هذا حمل كثير من العلماء حديث رسول الله «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ».

فالتشبه المحرم هو ما كان في خصائصهم المميزة لهم عن غيرهم ، أما التشبه بهم في أشياء ليست من خصائصهم ، وإنما يشترك فيها كل الناس فليس محرما ولا يتناوله الحديث.