باسل طلوزي

على أي عرشٍ مهترئ كان يجلس طاغية الشام، وهو يتحدّث عن «اكتشافه» العبقري الجديد، بشأن الأردن؟ 
لست مجروح الشهادة، إذا وقفت مدافعاً عن الأردن في وجه تخرّصات بشار الأسد أخيراً، التي ادّعى فيها أن «قرار عمّان في يد واشنطن»؛ لأنني لم أُحسب على أي نظام عربي يوماً، ولم أكن من أصحاب «الأعطيات» و«الهبات». لكن، لا أدري لماذا أصابُ بهذا الكمّ المهول من الاحتقان إذا هاجم أحدٌ من أمثال الأسد هذا البلد الذي خبرته من أصابع القابضين على جمر الكرامة، وسط صقيع الفقر والفاقة. 
على هذا الطاغية الذي كان موشكاً على السقوط قبل عام فقط، لولا حبل الإنقاذ الروسي والإيراني والعراقي، أن يفكّر مليًّا قبل أن يطلق حكماً واحداً على الآخرين؛ لأن القرار السوري لم يكن، في أي يوم، غير بضاعةٍ معروضة للبيع، حسب تغير المراحل وتبدل التجار. 
منذ الانقلاب الأسدي على رفاق «البعث» الذي جاء تحت شعار «الثورة التصحيحية»، أصبح القرار السوري متاحاً للبيع والإيجار، بعد أن حوّل هذا النظام المرعب سورية كلها إلى جمهورية للخوف، تحت شعارات «التطهير»، فكان أول عمل قام به هو زجّ رفاق الأمس من المحظوظين في الزنازين التي لم يبرحوها إلا محمولين على النعوش، فيما كان مصير سيئي الحظ، المشانق والتذويب بالأسيد، وعمد الأسد إلى تغليب القيادة القطرية على نظيرتها القومية، وبطش برموز من مؤسسي حزب البعث، كما فعل خصومه في بغداد، فخسر الحزب أنقى وجوهه، من أمثال منيف الرزاز وميشيل عفلق. 
وكان أول مشتر للقرار السوري هي تل أبيب التي اشترت قرار الانسحاب المفاجئ من الجولان، في حرب 1967 من حافظ الأسد شخصيًّا، حين كان وزيراً للدفاع آنذاك، وهو الذي أمر القوات السورية المرابطة على مرتفعات الجولان الاستراتيجية، بالانسحاب دون أي مبرّر أو تهديد حقيقي، فكان أن احتلت إسرائيل الجولان على طبقٍ من ذهب، وحتى اليوم لا يزال قرار الأسد الأب لغزاً لا يعرف المحللون العسكريون تفسيره، أما الضالعون في فن «العمالة» وتجارة الأوطان فيعرفون السبب حتماً. 
ثاني المشترين، كانت طهران، إبّان الحرب العراقية الإيرانية، وكان البائع الأسد الأب أيضاً، وجاءت مؤازرته إيران، لوجستياً وعسكرياً بالخبراء والمستشارين، تحت شعار «رد العدوان العراقي عن الثورة الإيرانية»، وصدّقه كثيرون آنذاك وهو يروّج شعاراته الثورية، لتسويغ مناصرة الإيرانيين. لكن سرعان ما اتضح الأمر، حين اكتشف المخدوعون أن هذه المؤازرة تحمل رائحة المذهبية؛ لأن النظامين، الإيراني والسوري، تجمعهما وحدة المعتقد الطائفي. 
والحال أن البعث الأسدي، منذ اغتصابه السلطة، كان يُبطن هذا الشعار الطائفي، بدليل أن الأسد سلم أفراداً من طائفته العلوية مفاصل الدولة، ومحرّكات الاقتصاد، فنهبوا البلاد وأخضعوا العباد بكل وسائل الترهيب و»الترهيب». 
أما المشتري الثالث، وهو الأهم، فكان مزيجاً من «الإمبريالية» و«الرجعية» ذاتهما اللتين أتخمنا الأسد وبعثه بمهاجمتهما وجعلهما هدفاً استراتيجياً لمعاركه «الخالدة»، وكانت السوق التي عرض فيها الأسد بضاعته، هي «حفر الباطن»، إبّان التحضير للعدوان الثلاثيني على العراق، فجرت مساوماتٌ تمخضت عن موافقة الأسد على الانضمام لهذا الحلف، عسكرياً، فاصطفت مدرعاته، إلى جانب زميلاتها «الإمبريالية» و«الرجعية»، فيما يُحسب للأردن، الذي كان يتهمه الأسد بـ«الرجعية»، أنه كان من الدول القليلة التي عضّت على كرامتها، فرفض هذا العدوان جملة وتفصيلاً، وتحمّل جراء ذلك، سائر أشكال الضغوط والحصارات البحرية والاقتصادية، ودفع ثمناً باهظاً، بعودة أبنائه مطرودين من دول الخليج، ولو لم يتخذ الأردن غير هذا الموقف في تاريخه، لكفاه ذلك عنواناً لحسّه القومي والعروبي، على الرغم من أنه لم يكن صاحب شعارات «ثورجية». 
حاصل القول، لم يكن الأردن ينتظر شكراً من الأسد، على استضافته أكثر من مليون ونصف المليون لاجئ سوري، ممن شرّدهم الأسد نفسه بفضل استبداده وولعه بالسلطة، والذين يتقاسمون مع الشعب الأردني لقمة الخبز والوظيفة. لكن، أن يتهم «بائع مواقف» مثله الأردن بمثل هذه الاتهامات، فمن حق الشعب الأردني كله أن يصرخ في وجهه: «سيادة الرئيس: اخرس».}