د. ديمة طارق طهبوب

على مقاعد الدراسة كنا يوم انطلقت الانتفاضة الأولى، فكانت نقطة تحوّل في تربية وتفكير الشباب الإسلامي الذي تربى نظرياً على مفاهيم التضحية والجهاد وقدسية الشهادة وحب الأوطان ومفردات العزة والكرامة فرأى امكانية تحقيقها واقعاً ساطعاً يعيد أمجاداً غاصت وتوارت عن الذاكرة لتصبح مجرّد صفحات في كتب التاريخ، أصبح نصر القلة عياناً أمام الأنظار، وأصبح المستضعفون سادة يأبه العالم لفعلهم ويربكون السياسة، وصار الحجر والسكين وحتى صوت التكبير جندياً من جنود الله وصانعاً للنصر!
كانت مرحلة فارقة للشباب المسلم في تكثيف الوعي وتفعيل الشعور الجمعي بقضايا الأمة وتوجيه لبوصلة الأولويات نحو القضية الأقدس حينها، قضية فلسطين.
انتهت الانتفاضة الأولى، وقد رسخت حالة من الوعي النضالي واقتناعاً بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، ولكن حالة الوعي هذه أصبحت حالة ترف فكري وتنظير ونضال بالوكالة، يقوم به أصحاب الأرض فرض عين فيتحول كفاية على الآخرين، وخمدت جذوة التصعيد والتواتر لشعب وقضية لا تملك الانطفاء حتى يتحقق التحرير، وما بين الانتفاضتين و بعدهما انشغلنا في غربتنا الروحية عن حالة الاستعداد الدؤوب، ودخلنا دوامة تكوين الأسرة والعمل و طموحات المستقبل، وتوارى عند الكثيرين الهدف الواضح الذي يجب ان تصب في مصلحته كل الأعمال، ودخلنا مرحلة الازدياد من كل متع الدنيا، وكأنه ليس يثقل كاهلنا أوطان محتلة ومقدسات مدنسة وأعراض منتهكة، وضعنا الضمير في حالة سبات قد يستيقظ أحياناً في الدعاء وبذل فضول المال رفعاً للحرج عن نفس كانت في عزّ شبابها تنام وتقوم على أخبار الشهادة والشهداء، وتعلق صورهم كالنجوم، وتترنم بنشيدهم وسيرتهم! 
الشباب شهود الانتفاضتين أصبحوا الآن جيلاً على أبواب الأربعينات وجاوزها بعضهم، والانتفاضة الآن ان قامت أو تحضرت لما هو أعظم فتلك فرصتهم الأخيرة لاظهار معدنهم واختبار تربيتهم لسنين من الغرس طالت كثيراً، وقد ودّع بعضهم الدنيا بموت الفجأة، وما زال الإيمان سلبياً لم يتفعل، وما زال في النفس شوق لموقف عزو خروج من دكة الاحتياط الى ميدان الاستخدام في عين الشمس وعين العاصفة لا في وارف الظلال ودعة الأركان!
عندما نتمنى ان تقوم الانتفاضة و تتحرك المياه الراكدة أين نرى أنفسنا؟! متفرّجين مشجعين أو عاملين مضحّين؟! نحتفي بالشهداء ونطنطن لهم أم نعدّ أنفسنا وأبنائنا لنكون التالين؟ نطلب من الناس التضحية دون أن نحس بكسر اليتيم وفقد الأم ووحشة الأرملة، أم نحمل معهم أوجاعهم بعد نسيان الناس وتفرقهم؟!
يا جيل الانتفاضتين.. لقد اكتمل شبابكم وبلغتم أشدّكم، وهذا ناقوس الفرصة الأخيرة يدق أبوابكم تنبيهاً وتذكيراً، فهل لنا عظة في أبي ذرّ تأخر عن الركب ولكنه التحق بالنهاية مع كبر سنه وضعف قوته، وعمرو بن الجموح يقتنص الفرصة الأخيرة من عمره في معركة أحد ليدخل بعرجته الجنة؟!
هذا الزمان زمان الاستدارة وتمكين الضعفاء، وقد طالت أعمارنا لنكون إما من المصطفين أو من المتروكين.
إنها الفرصة الأخيرة، فهل من مدرك؟! إنها الفرصة الأخيرة فمن يقبل على الاقتناص؟}