ليست المرة الأولى التي يتقدم فيها رئيس حكومة في لبنان باستقالته، فترفض الاستقالة أو تقبل أو تؤجل. لكنها هذه المرة استغرقت وقتاً أطول، وما تزال تراوح، رغم مرور قرابة شهر على إعلانها. المشكلة هذه المرة أن الاستقالة جاءت من عمق الصحراء بالجزيرة العربية السعودية، وجرى اعلانها دون مقدّمات، لا من رئيسها أو من كتلته النيابية. ولذلك فهي ما تزال تراوح مكانها، وإن كان يغلب على الظن أن الاستقالة طويت، وإن الأمر منوط برئيس الجمهورية، الذي لا يفصله عن حسم الموضوع وإراحة اللبنانيين سوى عودته من زيارته الايطالية.. ليتوّج انعقاد مجلس الوزراء بمشاركة الرئيس سعد الحريري، بعد الوصول إلى تسوية لبعض القضايا العالقة.
لكن هل هذه الاشكالية وحدها هي التي عصفت بالحياة السياسية اللبنانية، وهدّدت الاستقرار والأمن في لبنان، مما استدعى اهتزاز سعر صرف الليرة واستنفار الجهاز المصرفي اللبناني؟!
في الشهر الماضي تحقق انجاز عربي كبير يتعلق بالقضية الفلسطينية، القضية المركزية التي تهدد بحق أمن واستقرار العالمين العربي والإسلامي. إذ أفلحت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في عقد عدد من المصالحات، الأولى مع النظام المصري الذي كان يناصبها العداء ويحظر على شعبها في قطاع غزة العبور دخولاً أو خروجاً. والثانية -وهي الأهم- عقد مصالحة مع حركة فتح التي تنفرد بالسلطة الفلسطينية وتحتكر تمثيل الشعب الفلسطيني سواء في المؤسسات الرسمية أو الهيئات الدولية.. بما في ذلك تشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، وذلك بعد مفاوضات وحوارات شاركت فيها وفود من كلا الفصيلين (فتح وحماس) عقدت لقاءاتها في القاهرة بوصاية المخابرات المصرية.
لكن ماذا بعد؟ لقد كانت مصر وعدد من الأنظمة العربية تصنف حركة حماس منظمة إرهابية، كما كان النظام الحاكم في مصر يوجه الاتهام الى الذين يقيمون علاقات مع حماس تحت عنوان «التخابر مع حماس»، ويدرك المراقبون أن أجهزة الأمن والمخابرات المصرية كانت تستقبل وفود الحركة، سواء كانت قادمة من قطاع غزة أو أي جهة من العالم. ويدرك الذين واكبوا جولات المفاوضات الجهد الذي بذلته مصر من أجل عقد مصالحة بين حركة حماس والفصيل المنشق عن حركة فتح بزعامة محمد دحلان، رغم العلاقة الحادة التي كانت تفصل هذا الأخير عن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وقيادات حركة فتح. كما أن السلطات المصرية استقبلت وفوداً تمثل الفصائل الفلسطينية كي تشمل المصالحة أوسع اطار فلسطيني، سواء كان قريباً من النظام المصري أو بعيداً عنه.
اكرّر: ماذا بعد؟ هل يكفي أن تستضيف القاهرة وفوداً فلسطينية، بعضها يمثل مقاومة حقيقية للعدوّ الإسرائيلي، وما زال يحمل السلاح ويوجهه الى قوات الاحتلال سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، وشرائح أخرى نأت بنفسها عن المقاومة، وهي تمارس تنسيقاً أمنياً مع قوات الاحتلال، والأفظع من ذلك أن بعض رموزها والناطقين باسمها يطالبون بتسليم السلاح الفلسطيني، وان تقوم حركة حماس بتمكين الحكومة (حكومة السلطة) تمكيناً كاملاً في قطاع غزة، وان يكون كله في عهدة السلطة. فأين تذهب أجهزة السلطة بهذا السلاح؟ هل تخزنه في أنفاق قطاع غزة، أم تسلمه لقوات الاحتلال.. مع العلم أن هذا السلاح لا يمكن لقوات الأمن المستقدمة من الضفة الغربية أن تستعمله في حفظ الأمن أو نشره، سواء حملته قواتها أو قوات جديدة يجري تشكيلها من جديد؟!
هذا جانب، والجانب الأهم هو أن السلطة الفلسطينية أيام الراحل ياسر عرفات رحمه الله، أجرت انتخابات تشريعية في الضفة وغزة عام 2006، وحققت حركة حماس وحدها 57٪ من مقاعد المجلس، في حين لم تحقق حركة فتح سوى 32.5٪، بينما ذهبت بقية المقاعد لأحزاب أخرى أو للمستقلين، وجاء رئيس حكومة الوحدة الوطنية يومها ورئيس المجلس التشريعي من حركة حماس.. الى أن استشهد ياسر عرفات مسموماً، وجرت تسمية محمود عباس رئيساً للسلطة بعد الانقسام الذي وقع عام 2007.
ويحلو للبعض اليوم أن يتهم حركة حماس باحتكار السلطة في غزة بعد الانتخابات الوحيدة التي جرت عام 2006، مع أن المراقبين السياسيين يذكرون أن حركة حماس لم تدخل الانتخابات يومها لتحقق أغلبية برلمانية ولا من أجل تشكيل حكومة.. كل الذي كانت تسعى إليه هو أن تحقق كتلة برلمانية معارضة لا تتعدى 25 أو 30 بالمئة من مقاعد المجلس التشريعي، لكن النتائج فاجأتها كما فاجأت بقية الفصائل. لذلك يلاحظ المراقبون كيف أن الحركة سارعت إلى إجراء المصالحة، وحلت «اللجنة الإدارية» التي كانت تمارس السلطة في القطاع خلال غياب حكومة «الحمد الله» عن القطاع. ومع أن الأجهزة الرسمية التابعة للسلطة تسلمت معظم المؤسسات الرسمية في القطاع، إلا أنها لم تستطع الإمساك بجميع المقدرات، لا سيما الأجهزة الأمنية، وبدأت تطالب بأن تتسلمها وتتسلم معها سلاح المقاومة الذي تمتلكه حركة حماس وبقية الفصائل الفلسطينية بذريعة وحدة السلاح الفلسطيني في القطاع والضفة.
أما الانتخابات النيابية فهي بالغة الاستعصاء على السلطة الفلسطينية والعاملين معها، ذلك أن حركة حماس (ومرشحيها) سوف تحقق أغلبية في قطاع غزة، لأن حركة فتح في غزة يسيطر على معظم شرائحها محمد دحلان وليس محمود عباس، ومعظم مقاعد المجلس (المنتهية ولايته) تابعة لحركة حماس أو لمحمد دحلان. ويستبعد المراقبون أن يغامر محمود عباس بإجراء انتخابات نيابية أو بلدية أو رئاسية، لأن فوزه وفوز الأجنحة التابعة له من حركة فتح سيكون مستحيلاً.
يبقى التأكيد على أن هذه المرحلة بالغة الصعوبة في القضية الفلسطينية، لأن الفلسطينيين والعالم العربي من حولهم يعانون مخاطر قاهرة، منها تهويد القدس والمسجد الأقصى، وكذا الخليل والمسجد الإبراهيمي.. فضلاً عن الحديث الدائر عن ترحيل فلسطينيي الضفة الغربية الى شبه جزيرة سيناء، كي تصبح فلسطين التاريخية -كما يحلم اليهود الصهاينة- أرضاً إسرائيلية.. وهذا ما يجب أن يتنبه له ويعمل على مواجهته كل العرب والمسلمين.