العدد 1426 / 2-9-2020
الدكتور وائل نجم


قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بزيارة ثانية إلى لبنان في أقلّ من شهر أعقبت الزيارة الأولى التي قام بها بعد انفجار مرفأ بيروت، وقد شارك ماكرون في الزيارة الثانية فيما سُمّي بمئوية لبنان في الأول من أيلول، واستكمل فيها ما بدأه في الزيارة الأولى من طرْح حلول لخروج لبنان من أزماته ومن بينها عقد سياسي جديد بين اللبنانيين، كما كان ماكرون قد أشار في الزيارة الأولى إلى أنّه سيعود إلى بيروت مطلع أيلول ويريد من المسؤولين اللبنانيين حلولاً للأزمة. وقد أشارت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية أن ماكرون هدّد خلال زيارته الأولى المسؤولين اللبنانيين بعقوبات أمريكية وأوروبية فيما لو تخلّفوا عن الاتفاق على إنجاز إصلاحات وتقديم تنازلات، وبالفعل فإنّ تسمية السفير مصطفى أديب لتأليف الحكومة العتيدة جاء قبيل ساعات قليلة من وصول ماكرون إلى بيروت بما عكس خضوع الطبقة الحاكمة في لبنان للضغط الماكروني.

المؤسف أنّ الطبقة الحاكمة في لبنان ألغت نفسها وخضعت بشكل كامل للرغبة والطلب الفرنسي حيث أعلن ماكرون خلال الزيارة الثانية، وبعد لقاء القوى السياسية اللبنانية التي تشكل الطبقة الحاكمة تقريباً، أعلن أنّ الحكومة ستكون مشكّلة خلال خمسة عشر يوماً، وما يلفت في هذا السياق أنّ الرئيس المكلّف لم يبدأ بعد الاستشارات النيابية ولا المشاورات السياسية لتشكيل الحكومة، بما يوحي أن ماكرون هو الذي يشكّل الحكومة، وهي جاهزة بجيبه، وهذا بحدّ ذاته انتقاص من القرار الوطني السيادي.

كما وأنّ ماكرون أبلغ القوى السياسية التي التقاها أنّها مطالبة بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، أو بمعنى آخر الشروط التي تريدها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والمنظومة الدولية، خلال ثلاثة أشهر على أبعد تقدير، وإلاّ فإنّها ستكون على قائمة العقوبات الأمريكية والأوروبية. بمعنى آخر فإنّ ماكرون قال للطبقة الحاكمة جئتكم بالعقوبات إذا لم تخضعوا للشروط، وهو ما يعدّ تدخلاً سافراً من دولة في شؤون دولة أخرى، وتهديد واضح وصريح بل واعتداء على سيادة دولة أخرى، مطمئناً هؤلاء بأنّه سيعيد تعويمهم مقابل الخضوع. خلاصة القول إنّ ماكرون قال بصورة أخرى الأمر لي هنا في لبنان.

والمؤسف الآخر أنّ الطبقة الحاكمة رفضت الإنصات لصوت المواطنين المنتفضين بالشارع، الذين يطالبون بالإصلاح وإنهاء الفساد والفوضى والتفلّت ويريدون بناء دولة مؤسسات وقيم وقانون، فإذا بهذه الطبقة تهمّش مطالب المواطنين، وتنصت بل وتخضع لمطلب ماكرون أمام التهديدات التي طالت مصالحها الخاصة عندما هدّدها بوضعها على قائمة العقوبات الأمريكية والأوروبية.

وبالعودة إلى زيارة ماكرون وتصرّفه بشكل أوحى كأنّه مفوّض سامي جديد للبنان، فإنّ ماكرون أراد من خلال زيارته التأكيد على بعض الأمور وتأمين بعض المصالح، فهو أراد أن يزجّ بلبنان في أتون صراع شرق المتوسط خاصة أنّ فرنسا تخسر أوراقها في أفريقيا واحدة تلو الأخرى، وهي تريد الاحتفاظ بورقة في شرق المتوسط، ومن هنا جاء التركيز على لبنان من أجل تعزيز التواجد الفرنسي فيه لمواجهة ما تعتبره تحدّيات أمام باريس، من دون أي اعتبار لمصالح لبنان، ولا لسيادته أو استقراره، ولذلك تعامل ماكرون في لبنان وكأنّه مفوّض سامي حقيقي، أو كأنّه الجنرال "غورو" الذي أعلن عن " لبنان الكبير" في الأول من أيلول من العام 1920 كجزء من انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.

وأمّا الأمر الآخر فإن ماكرون يريد الاستثمار في لبنان من أجل استعادة الشعبية المنهارة أو المتراجعة في باريس وبقية المدن الفرنسية علّ ذلك يشفع له في أي استحقاق فرنسي قادم.

الإشكالية الكبرى في كل ذلك تكمن في أنّ الطبقة السياسية في لبنان هي أيضاً مأزومة وتبحث عن حلّ ومخرج يعيد لها الاعتبار ويتيح لها الإمساك بالسلطة من جديد، كلٌّ بحسب مصالحه وتطلعاته وأجندته الخاصة، وقد وجدت في الطرح الفرنسي في المرحلة الحالية طوق النجاة الذي ينقذها أو يمنحها الوقت لإعادة التموضع والتخلّص من ضغط المرحلة الحالية، ولكنها للأسف ظهرت وكأنّها لا تملك من أمرها شيئاً أمام إرادة فرنسية تريد أن تستثمر في كل شيء من أجل استعادة النفوذ الإقليمي والدولي.