بعد أكثر من خمسين عاماً من النكسة، أو الهزيمة، أو حرب حزيران التي لم تكد تبدأ حتى انطفأت نيرانها على الأرض، بعدما دمرت إسرائيل جيوش الدول العربية التي كانت قد وعدت شعوبها بانتصار ساحق، سوف يستعيد فلسطين السليبة، فكانت النتيجة أن دمرت القوة الجوية المصرية، في بداية الحرب القصيرة الأمد، مثلما دمرت الجيوش العربية المشاركة، واجتاحت إسرائيل غزة وسيناء. وعلى الجبهات الأخرى، احتلت إسرائيل الضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان والقنيطرة. حصلت إسرائيل، في تلك الحرب، على أكثر مما كانت تطمح إليه حينها، منذ إعلان تأسيسها عام النكبة 1948، ونشطت الجمعيات الصهيونية لتسهيل الهجرة إلى فلسطين المحتلة، وتدفقت الأموال والمساعدات من أميركا وألمانيا، إلى الدولة الصهيونية التي عرفت كيف تستغلها وتستثمرها، لتمكين كيانها، مع التذكير هنا بأن قرار توحيد القدس كان قد صدر عن الكنيست الإسرائيلي في تلك الفترة، في 27 حزيران 1967، بما يشبه الإجماع أثناء التصويت للقانون، واشتعلت نيران الخذلان في صدور أبناء هذه الشعوب المصدومة التي وضعتها الهزيمة في حالة من الذهول أمام أسئلة كثيرة، لم تستطع كل القوى السياسية والفكرية الإجابة عنها. 
بعد هذه السنوات الطويلة التي شهد فيها العالم تطوراً بسرعة فلكية، تعلمت خلالها شعوب عديدة من تجاربه المريرة، فنهضوا من رمادهم وركام انكساراتهم، ليرمموا ويبنوا ويؤسسوا دولاً صارت رائدة وصاحبة موقع راسخ بين الأمم القوية. تعيش شعوب منطقتنا انتكاسةً أقسى وأشرس، انتكاسة الشعور العارم بالهزائم والإحباط المرير النافذ إلى العمق، وهي التي أرادت فقط أن تنعم بالحرية والاستقلال في بلدانها، فتآمر العالم عليها، ودمر أوطانها وأجهض أحلامها.
تعود النكسة وأجواء الهزيمة لتؤجج الشعور بالغبن والظلم، وتشعل النيران في الصدور أكثر، على وقع الوحشية التي تلاقيها الشعوب العربية، في فلسطين وحولها. يُقتل الفلسطينيون بحقد وإصرار على مرأى العالم في مسيرة العودة الكبرى التي يريدون من خلالها لفت أنظار العالم إلى حقهم المسلوب، وإلى حلم العودة إلى أراضيهم التي هجروا منها، ليحل محلهم مستوطنون آخرون، وهم أصحاب الأرض. 
أسئلة الماضي التي طرحتها هزيمة حزيران، ولم تلقَ إجاباتٍ بعدما ألهت الأنظمة التي استلمت المرحلة ما بعد الهزيمة شعوبها بمشكلات حياتية، ومارست قمعها وطغيانها، وشلت الحراك السياسي، حتى لم يعد هناك نخبٌ يمكن أن تؤثر في وعي الشعوب، تلك الأسئلة تعود اليوم محمّلةً بأسئلةٍ أخرى، تنتظر من يجيب عليها، بعدما انهارت الأيديولوجيات، وتاهت الحركات القومية في سراديب العنصرية القاتلة التي كانت سبباً أساسياً في ما آلت إليه شعوب المنطقة، وخلفت وراءها تياراتٍ من الانكسارات، جرفت الشعوب باتجاه التطرّف والحركات الأصولية، بعدما خابت الآمال بالقيادات والزعماء والأحزاب والأنظمة بكل أشكالها.
لا بدّ من إعادة النظر والتفكير بمفردات وشعارات كثيرة، في ظل الوضع الكارثي الذي آلت إليه الأمور في سورية، البلد الذي رفع شعار المقاومة والممانعة طوال خمسين عاماً، وباعتبارها كانت «قلب العروبة النابض»، والمدافعة عن حق الشعب الفلسطيني في استعادة أراضيه المغتصبة وبناء دولته، سورية التي رفعت شعارات القومية والحرية والاشتراكية والديموقراطية وحق الشعب في تداول السلطة، والهوية الموحدة وغيرها الكثير، سورية الدولة التي تقرّ نظرياً بالمواطنة أساساً للانتماء وبناء الدولة، بينما صادرت المجال العام، بقيادة حزب وحيد للدولة والمجتمع، لجهة القومية العربية، وضيّقت الفضاء على باقي مكونات الشعب السوري القومية.
لذلك كله، وأمام النكسات الكبيرة التي يتعرّض لها الشعب السوري، لا بدّ من وقفة مع الذات، وطرح الأسئلة التي يفرضها الواقع المرير. أسئلة تدور حول الأسباب التي دفعت بسورية إلى قاعٍ بلا قرار إلى الآن؟ وحول الهوية السورية الضائعة والمُضيّعة بين الأمس واليوم؟ لم يبلور النظام الحاكم فكرةً عن هوية سورية خاصة، ولم تسع المعارضة التي ادّعت تمثيلها الشعب السوري إلى بلورة فكرةٍ بديلة، وكانت النتيجة أن انزلق حراك الشعب باتجاه الحرية، وامتلاك قراره نحو مستنقع الحمم الحارقة. بدلاً من أن يكون التنوع الثقافي والديني والعرقي القديم في سورية سبباً ودافعاً لبناء كيان سياسي حديث، يقوم على أساس المواطنة، ويضع دستوراً مستقلاً، يحرّره من أي صبغةٍ طائفية أو قوميةٍ أو عرقيةٍ، فإن ما حصل ويحصل هو نكسات تتوالد من بعضها، وانحدارٍ نحو الحروب  والاقتتال بين مكونات الشعب، وانجرار السياسي خلف العسكري، فالحكم في سورية للسلاح والقوة المدعومة خارجياً، والنتيجة هي طمس معالم هوية سورية. 
وبهذه الحجّة المضللة، تمتد الأيادي الطامعة إلى سورية، وتدير صراعاتها فوق أرضها، معتمدةً ومعوّلةً على ولاءاتٍ محليةٍ، تتوزع بين نظام ومعارضيه، فتكون لإسرائيل ذريعة إضافية للاعتداء على السيادة السورية التي ما زالت تحتفظ بحق الرد، وتُراكمه في بنوكها الممانعة، بينما لم يعد القرار وطنياً أو سيادياً. لقد أدخلتنا الأزمة والمؤامرات التي كانت ذريعةً، فأصبحت واقعاً تحت نوع آخر من الاحتلالات والانتدابات والوصايات، ولم نعد نعرف أي سورية نريد ونحلم ونطمح بها، وأي خريطةٍ يمكن أن يمثلها علم وحيد يتفق عليه أبناؤها. هل ستُنسي النكساتُ السورية شعبَها نكسة حزيران التي حقنته بنسغ الهزيمة منذ خمسين عاماً، فأفقدته الثقة بنفسه، وعندما صحا وأراد إعادة الاعتبار إليها، انهالت عليه النكسات كالوابل!}