ما زالت الخيارات حول قانون الانتخاب تراوح مكانها، ليس منذ منتصف الشهر الجاري، بل منذ أكثر من ثماني سنوات. وهذا واقع سياسي غير مسبوق، ليس في لبنان وحده، بل في كل أنحاء العالم. فالانتخابات يمكن أن تؤجل بسبب حروب أهلية، أو أحكام عرفيّة، أو زلازل وفيضانات، لكن أن يكون التأجيل بعدم التوافق على قانون جديد للانتخابات، فذلك مبرِّر غير مسبوق، على الرغم من أن البلد كان يشهد اجراء انتخابات نيابية على كامل الأراضي اللبنانية، دون اعتراض أو رفض أو تمديد أو ترحيل.
سبق ذلك فراغ طويل في رئاسة الجمهورية لأسباب غير مبرّرة، وتمديد لولاية المجلس النيابي استمر أربع سنوات دون أن تطعن أي جهة بمشروعية هذا التمديد. والآن تشرف مدة التمديد الثالث على الانتهاء، دون أن يكون في الأفق أي مخرج أو حل.. فلماذا؟! نحن نفاخر بأننا بلد ديمقراطي، وربما الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، فأين هي ديمقراطيتنا بعد هذه النماذج المخيبة للآمال؟ كنا نتذرع بالوصاية السورية، فأين نحن الآن من هذه الذريعة؟!
لقد سبق لحكومات لبنانية أن تقدمت بمشاريع قوانين انتخابية متعددة، أبرزها ما تقدم به وزير الداخلية في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، لكنها أودعت خزائن المجلس النيابي دون أن يجري عرضها أو مناقشتها، أما الآن فلا يكاد وزير الداخلية (نهاد المشنوق) يأتي على ذكر أي قانون مقترح للانتخابات، ويمارس ذلك وزير الخارجية (جبران باسيل)، فأي التزام بالصلاحيات ترصدها الحكومة ثم تحاسب المخالفين.. وباسم من يتحدث الوزير المذكور، وما شأن مقترحاته المتكررة والمتهاوية بسياسة لبنان الخارجية؟!
لقد سئم اللبنانيون الصيغ الانتخابية المطروحة، وباتوا لا يعرفون فرقاً بين قانون الستين والقانون النسبي والمختلط والتأهيلي، وبعضهم يؤكد أن النواب أنفسهم الذين يطرحون القوانين لا يكادون يعرفون فرقاً بين هذا القانون وذاك.. فأين هي الحكومة ورئيسها، بل أين هو رئيس الجمهورية الذي يتحدث الوزير باسيل باسمه صباح مساء؟ هو لا يشغل نفسه بقانون الانتخاب، ولا بالتمديد ولا التعطيل، بل يفاخر بأنه أقام حفلاً للأطفال في عيد الفصح في القصر الجمهوري، كما سبق له اقامة حفل لرجال ونساء وأطفال عائلته في عيد الميلاد الماضي، كأن هذه المناسبات باتت أعياداً وطنية لجميع اللبنانيين.. مع الحرص الشديد على استرجاع تسمية القصر إياه بـ«قصر الشعب» مستذكراً حقبة تاريخية بائسة شهد فيها هذا القصر (الجمهوري) أحداثاً أليمة انتهت بفرار الرئيس الى منزل السفير الفرنسي، ثم الى فرنسا نفسها لاجئاً سياسياً لعدة سنوات، انتهت بالافراج عن عدد كبير من السجناء والملاحقين.
واليوم، يتلطى الجميع بفخامة الرئيس، ويشكرون له تمديده غير المسبوق للمجلس النيابي شهراً كاملاً.. فماذا لو انتهى هذا التمديد بعد الخامس عشر من شهر أيار القادم.. هل يعتبر المجلس النيابي منحلاً، وهل بامكانه التمديد لنفسه سنة كاملة جديدة كما سبق أن اقترح الرئيس نبيه بري؟!
معروف في سجل الرؤساء أن ولايتهم التي تمتد ست سنوات، يجري تقسيمها الى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى ومدّتها سنتان يجري خلالها الترحيب بالرئيس الجديد، والتأكيد على أنه الرئيس القوي والديمقراطي وغير ذلك من الأوصاف. في السنتين الثالثة والرابعة يستقر الحكم، كما يستقر الرئيس ويمارس صلاحياته الدستورية. أما في الخامسة والسادسة فيبدأ الرئيس بتلاوة مراسم الوداع، كما يبدأ اللبنانيون بطرق أبواب ونوافذ قصر بعبدا (قصر الشعب) تذكيراً للرئيس بضرورة جمع أوراقه وحاجياته للعودة إلى منزله، أو الى مثواه الأخير إذا لم يألف رحيلاً طبيعياً. وإذا كان الرئيس أمين الجميّل قد أنهى عهده بتشكيل حكومة الرئيس عون في 23 أيلول 1988، والرئيس لحود بتمديد الولاية الذي فرضه الراحل غازي كنعان، فإن الرئيس سليمان يكاد يكون الرئيس الوحيد الذي غادر قصر بعبدا ليبقى شاغراً عدة سنوات.
وبالعودة إلى «أم المعارك»، قانون الانتخاب الموعود، لا مشروع جدّياً يبدو في الأفق حتى الآن. هل نعود الى التمديد الذي طرحه الرئيس نبيه بري سنة كاملة في عمر المجلس، أم يرفض فريق من اللبنانيين -وعلى رأسه رئيس الجمهورية هذا التمديد- فنقع في اشكالية دستورية، يدعو فيها البعض بالنزول الى الشارع، كما سبق أن هدد بذلك أكثر من فريق؟!
يجيب بعض المراقبين بأن الأمور مرهونة بالأسباب الأولى لكل الفراغات التي حلت بلبنان واللبنانيين، من الفراغ الرئاسي الى الفراغ النيابي، وهو المأزق السوري. فالرئيس دونالد ترامب يبدو مكشراً على أنيابه، وقد أطلق وعوداً قاسية بشأن الرئيس بشار الأسد ودوره في حل الإشكال القائم في سوريا، خاصة بعد لقائه الموعود بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان الشهر المقبل، وانشغال القيادة الإيرانية بانتخاباتها الرئاسية في 19 أيار، والتفاهم الموعود بين الرئيسين ترامب وبوتين. فالجميع باتوا يدركون أنه آن الأوان للوصول إلى حل للأزمة السورية، تنهي الاقتتال الدائر وتقضي بانسحاب المقاتلين غير السوريين الى بلادهم. وهذا ما يعني ضبط الأوضاع على الساحة اللبنانية، بالاستقرار الأمني واجراء انتخابات نيابية بموجب قانون يقبل به معظم اللبنانيين.
لكن، هل يجري ذلك بهدوء واستقرار، بعد أن تتوافق القوى السياسية على القانون الجديد، أم يحتكم البعض الى النبرة العالية التي يطلقها «اللقاء الديمقراطي» وتهديده الأخير على لسان النائب غازي العريضي: «هناك من لا يريد أن يتعلم من تجارب الماضي ويكرّر الأخطاء نفسها وسيدفع لبنان الثمن»، معتبراً «أن جريمة التحريض المذهبي والطائفي والاستعلاء والغرور.. لن تؤدي إلا إلى مشاكل سيدفع ثمنها كل اللبنانيين».}