العدد 1416 / 10-6-2020

د. وائل نجم

ما جرى يوم السبت الفائت خلال التظاهرات الاحتجاجية على غلاء الأسعار وسوئها، وعلى الأزمة الاقتصادية، وعلى انسداد الأفق السياسي، والتي حاول البعض حرفها إلى مطالب أخرى ليس محل إجماع حالياً من قبل المحتجين، كرفع شعار المطالبة بتطبيق القرار الدولي 1559، وما رافق ذلك من شغب وشتائم وإهانات للرموز الدينية والسياسية، وإطلاق عبارات وألفاظ طائفية ومذهبية، وصولاً إلى شتم حَرَم النبي صلى الله عليه وسلم أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كاد - كل ذلك - أن يشعل فتنة طائفية ومذهبية لولا صوت العقل والحكمة والوعي والتبصّر من قبل أغلب الأطراف والقيادات التي استشعرت الخطر، وهالها فداحة الموقف وما يمكن أن يجرّه على البلد.

لكن ليست كل مرّة تسلم الجرّة. فالأزمة الاقتصادية في البلد ما زالت في بدايتها، وانسداد الأفق السياسية لا يلقى بالاً من قبل الطبقة السياسية الحاكمة للتقدّم بمبادرة جدّية فعلية حقيقية تخرج لبنان من عنق الزجاجة ومن حالة الانسداد تلك. والتعبئة السياسية والعنصرية والطائفية والمذهبية ما زالت على أشدها، وتتخذ من شد العصب الطائفي والمذهبي عنواناً لها، بل أكثر من ذلك تحتمي تلك الطبقة السياسية خلف الطوائف لتمارس من ذاك "المتراس" أبشع أنواع الكيدية والسياسة اللامسؤولة، فتتمسّك بمنطق المحاصصة والمناكفة وإثارة الغرائز غير آبهة ما يمكن أن يلحق بالبلد من مصائب.

وأمام استمرار الأزمة الاقتصادية المعيشية من ناحية، وانسداد أفق الحل السياسي من ناحية أخرى، وحالة التعبئة والتحشيد من ناحية ثالثة، ومنطق المحاصصة من ناحية رابعة وخامسة وسادسة، فإنّ الحراك الشعبي في الشارع سيظل قائماً ومتواصلاً لأنّ منطق الأمور يقتضي ذلك، وبالتالي فإنّ الأمور لو ظلّت على الوتيرة ذاتها من التعبئة والتحريض والمحاصصة والمناكفة ... فإنّ الجرّة عندها قد لا تسلم مرّة أخرى، خاصة وأنّ هناك قوى خارجية متربّصة بالبلد لأنّها ببساطة تريد لمخططاتها ومشاريعها للمنطقة أن تسير وتمضي إلى الأمام.

لقد سار لبنان خلال الساعات الأخير من يوم السبت على حافة الفتنة الأهلية، طائفية، مذهبية، ومناطقية وغيرها. كاد البلد أنّ ينفجر بتلك الفتنة عندما أطلق أولئك الغوغاء من كلا الطرفين المتواجهين في ساحة الشهداء العنان لموجة السبّ والشتم والاعتداء على الأعراض والمقامات والقيم وكل شيء. البعض يتغنّى بالحرية وحقوق الإنسان وحضارية التحركات، غير أنّه يعطي نفسه حرية الشتم والسبّ والاتهامات وغيرها. والطرف الأخر يحدثنا دائماً بالمناقبية والقيم والاخلاق والسلوك والإيمان وغير ذلك ثم يطلق أتباعه العنان لأنفسهم للشتم واللعن والسبّ والتكسير والاعتداء وما سوى ذلك من تصرفات تتناقض كل التناقض مع القيم والمناقبيات التي يتحدث عنها قادتهم. ثم بعد ذلك يعود كل طرف وفريق، ومن القادة إلى التبرير والحديث عن فعل وردة فعل، ونضيع نحن، ويضيع الوطن في جدلية "الدجاجة والبيضة" أيهما قبل!!

لبنان في خطر. لبنان مكشوف على كل الاحتمالات. لا تظنّوا أيّها السادة أنّنا بمنأى عن ويلات الحروب الأهلية. كل نتائج التحريض والتعبئة والسياسة العوجاء اللامسؤولة توصل إلى الحروب الأهلية. كل الطموحات والتطلعات التي تتجاوز سقف المشروع في بلد كلبنان تقود إلى الحروب الأهلية. لذلك يجب أن يعي الجميع، وفي المقدمة القادة الدينيون والسياسيون أنّ منطق دفن الرأس بالرمال على طريقة النعامة لم يعد يجدّي، بل مواجهة الحقيقة حفظنا من السقوط في هاوية الفتنة وتوفّر علينا الدماء. ولذلك فإنّ المطلوب منهم ليس بيانات الاستنكار والرفض والشجب. بل المطلوب استبدال منطق التعبئة والتحريض بخطاب الحوار والانفتاح والصلح. المطلوب الخروج من منطق المحاصصة والجشع إلى منطق العدالة والتكافؤ. المطلوب إشاعة أجواء المحبة والتقارب والتعارف والتعاون بدل إطلاق العنان للخطابات التحريضية التي تمارس في الغرف المغلقة. بذلك نأمن على أنفسنا ووطننا من السقوط من على حافة الفتنة إلى قعرها، وإلاّ فلا تنتظروا السلامة في كل مرّة.