تحل في 25 من شهر تشرين الأول الجاري، الذكرى المئوية لقيام الثورة الروسية البلشفية التي تعد أكبر ثورة شهدها العالم في القرن العشرين، وغيرت مجرى التاريخ، وما زالت تؤثر فيه. لكن المفارقة أن ذكرى هذه الثورة تمر في صمت، حتى في البلد الذي شهدها، أي روسيا التي ما زال ينظر إليها ممثلة للفكر الاشتراكي وحاملة له، وهو الذي قامت عليه الثورة التي انتهت إلى فشل ذريع، وتمّ نعيها نهاية ثمانينات القرن الماضي مع انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان معقلها وحصنها المنيع. 
مناسبة الوقوف عند الذكرى المئوية لواحدة من أكبر ثورات القرن الماضي التي ما زال فكرها حياً، فرصة أيضاً للوقوف عند أخطائها الكبيرة، للاستفادة منها في عصرنا الحالي. ولكن، قبل الخوض في أسباب فشل تلك الثورة، لا بدّ من التوضيح والتمييز بين الثورة الروسية، والمقصود بها الثورة الشعبية التلقائية التي اندلعت في  شباط 1917، بسبب جوّ الإحباط العام الذي كان سائداً في روسيا القيصرية، وانتشار الفقر والجوع، ما أدى بالناس للنزول إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم، وكان شعارهم الوحيد «أعطونا الخبز». والثورة البلشفية، التي مثلت المرحلة الثانية من الثورة الروسية، وحدثت يوم 7 تشرين الثاني 1917، حسب التقويم الغريغوري الذي كان معمولاً به في عهد القيصر، وهو ما يوازي يوم 25 تشرين الأول حسب التقويم الميلادي الذي أصبح معتمداً في روسيا بعد قيام الثورة. وكان قائد الثورة الثانية التي ستغيّر مجرى التاريخ هم «البلاشفة» (الأكثرية داخل حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي الذين كانوا يؤيدون الحل الثوري)، بقيادة زعيمهم فلاديمير لينين الذي استلهم فكر كارل ماركس. 
نجحت الثورة البلشفية في وقت وجيز، مقارنة مع ثورات أخرى في التاريخ، في أن تقيم واحدة من أكبر الإمبراطوريات وأقواها في العالم، وفرضت سيطرتها ونشرت فكرها في أكثر من نصف المعمورة، وعلى شعوب في دول مختلفة في كل القارات. كما نجحت الثورة نفسها في تحقيق تقدم علمي واسع، وتطور صناعي كبير، وإنجازات لا تعدّ ولا تحصى في مجالات عديدة من مجالات الحياة. كما أرست قيماً كبيرة، مثل الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر والتضامن بين الشعوب.. لكن في النهاية، آلت تلك الثورة إلى الفشل بعد نحو 74 سنة فقط من قيامها مع بداية تفكك الاتحاد السوفياتي، لتنهار بعد ذلك ما كانت تعرف بـ «المنظومة الاشتراكية» التي كانت تدور في فلكه.
كانت أسباب هذا الانهيار وفشل الثورة بادية منذ قيامها، وظلت تتفاعل مثل «بكتيريا» معدية، حتى نخرت الجسد من الداخل، فانهار دفعة واحدة مثل قصر من رمال. وأول من نبّه إلى مكمن الخطر هو أحد أبناء هذه الثورة نفسها، وواحد من كبار مفكريها ومنظريها، لم يحظ في زمانه بأي اعتراف، بل إنه سُجن ونفي ومات فقيراً منفياً في المكسيك.
يتعلق الأمر بالكاتب فيكتور سيرج (1880 – 1947)، الذي يعدّ من أهم الكتاب الثوريين في القرن الماضي. انتبه منذ البداية إلى غياب أهم قيمةٍ يمكن أن تستند إليها ثورة حقيقية، وهي قيمة الحرية التي اغتالها جوزيف ستالين، وحارب كل المفكرين الثوريين آنذاك الذين نادوا بتغليب الحرية قيمة إنسانية عليا على كل القيم الاشتراكية الأخرى مهما كان نبلها.
وفي كتاب مذكراته التي كتبها في منفاه المكسيكي «مذكرات ثوري» (تصدر قريباً بالعربية في المغرب)، كان سيرج سابقاً لعصره، ومتقدماً على زملائه من المفكرين الثوار، عندما جعل الحرية قيمة أساسية في بناء كل فعل إنساني ناجح، للمساهمة الواعية في صنع التاريخ. وكان أول مفكر ثوري شارك في الثورة، وحمل السلاح، ودافع عنها بالقلم، يستعمل تعبير «الشمولية» لوصف سيطرة الحزب الشيوعي على كل منافذ الحياة داخل الدولة، كما كان سباقاً إلى الإشارة إلى مصطلح «حقوق الإنسان»، سنوات قبل صدور البيان العالمي لهذه الحقوق الذي صدر عام 1948.
بدأ سيرج حياته فوضوياً، وسرعان ما جذبته الثورة الروسية وثورة البلاشفة، فانخرط فيها  بعمق، لكنه سيكتشف باكراً أخطاء الثورة وهي في مهدها، فتحوّل من النضال في صفوفها إلى النضال ضد فاشيّة ستالين التي رأى فيها إجهاضاً لحلم الثورة وقيمها وتراثها الحقيقي الذي جسده الفكر الاشتراكي، كما نظّرت له الماركسية. وما خلص إليه سيرج، في وقت مبكر من قيام الثورة البلشفية، هو ما كان سبباً في فشلها بعد أكثر من سبعة عقود على قيامها. فالحرية قيمة أساسية غيبتها الثورة لتحقيق ما هو أولى وأهم بالنسبة إليها، أي العدالة الاجتماعية والمساواة لبناء المجتمع الاشتراكي، لكنها لم تكن تدرك أنها في سعيها إلى تحقيق أهدافها تلك، كانت في الوقت نفسه، تنمي الحاجة الغريزية لدى الناس إلى الحرية، في مفارقةٍ صارخة وقاتلة.
تنبأ سيرج بفشل الثورة التي كان هو أحد أكبر المتحمسين لها، وشقّ عصا الطاعة عليها، لكنه ظل مؤمناً بأن الفكرة التي قامت عليها ستبقى حيّة. ومن أجل ذلك، ترك وراءه كتباً ومقالات ورواياتٍ تمجد الثورة، باعتبارها إرثاً إنسانياً خالداً يتجدد عبر العصور، ولدى كل شعوب الأرض. 
والمفارقة أن الالتفات في الغرب إلى إرث هذا المفكر الثوري لم يحدث إلا بعد وفاته بسنوات، بسبب الدعاية الستالينية التي عملت على تشويه سمعته، والنيل من مصداقيته، وستبقى إحدى أهم مقولاته تختزل تحاليل ودراسات كثيرة كتبت عن الثورة البلشفية، عندما تنبأ مبكراً بأن «الثورة فشلت، لكن الفكرة ما زالت حية»، إنها الفكرة النبيلة التي قامت من أجلها تلك الثورة وما زالت تحلم بها شعوب كثيرة، أي العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والحرية.. أو ليست هذه هي نفسها شعارات ثورات الربيع العربي التي أُفشلت؟ 
أعيدوا قراءة فيكتور سيرج.. قد تفشل الثورات أو تجهض، لكن الأفكار تبقى حيّة لا تموت.}