لم يشهد التاريخ أن نظاماً يقصف شعبه بالطائرات والبراميل المتفجرة، فضلاً عن الدبابات والمدفعية الثقيلة، ثم يستعين بميليشيات وجيوش أجنبية على مدى قرابة ست سنوات، سقط خلالها حوالى ستمائة ألف مواطن، جلهم من الأطفال والنساء.. ويبقى العالم والمؤسسات الدولية والإنسانية يتفرّجون، مكتفين باتخاذ قرارات في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، دون أي تدخل لوقف هذه المجازر، بذريعة حق روسيا باستعمال حق النقض (الفيتو) ضد أي قرار يوقف الحرب الدائرة في سوريا.
جامعة الدول العربية غائبة عن السمع، ولو اجتمعت واتخذت قرارات فإنها تبقى حبراً على ورق ودون فاعلية. أما هيئة الأمم المتحدة فإن قراراتها غير ملزمة، ومجلس الأمن يعطل قراراته الفيتو الروسي.. لتبقى يد النظام طليقة في قتل مئات الآلاف من شعبه، وتشريد الملايين، دون أيّ تدخل عربي أو أممي لوقف هذه المأساة.
وما يجري في مدينة حلب اليوم جرى مثله في مدينة حماة عام 1982، عندما قصف النظام إياه (نظام آل الأسد) المدينة بمدافع الدبابات طيلة أسبوعين، والفرق أن العالم لم يسمع بمجازر حماة التي بدأت في 2 شباط 1982 إلا في السادس عشر منه، حين حاول الصحفي البريطاني روبرت فيسك المرور بالمدينة، وسمع القصف المدفعي على أحيائها، مما تسبب بسقوط ما يقدّر المراقبون أنه يتراوح ما بين عشرة آلاف وعشرين ألفاً، دون أن يعرف العالم شيئاً عن هذه المجزرة إلا بعد انتهائها، بينما يرى العالم ويسمع ما جرى ويجري في حلب وغيرها من المدن السورية، يوماً بيوم وساعة بساعة.. دون أن يفعل شيئاً لوقف هذه المجازر.
يقول بعض اللبنانيين من المشاركين في المأساة السورية إنهم لو لم يشاركوا في الحرب الدائرة في حلب أو غيرها داخل الأراضي السورية، لكانت المعارك الآن داخل الأراضي اللبنانية، وإن هذه المشاركة الاستباقية في الحرب جنبت لبنان مخاطر الدمار الواقع الآن في سوريا. وهذا تضليل إعلامي مفضوح يدركه الجميع، ذلك أن المنظمات الإرهابية ولدت عام 2014، وانتقلت من الأراضي (والسجون) العراقية الى الداخل السوري لمواجهة المجازر التي بدأت في سوريا منذ بداية الثورة السلمية في شهر آذار 2011، وان مجموعات قتالية ومستشارين عسكريين حزبيين كانوا يذهبون في ذلك التاريخ الى دمشق ليقدموا المشورة والأدوات الفنية القتالية المتطورة.. الى أن أسفر التدخل عن وجهه بحجة الدفاع عن مقامات آل البيت، ثم الى مدينة القصير وملحقاتها لحماية بعض القرى الشيعية قرب الحدود اللبنانية.. إلى أن جرى الإعلان دون خجل ولا وجل، انهم سيكونون في حلب وغيرها إذا استدعى الأمر ذلك.
لكن الأشد فظاعة في الملف السوري هو التدخل الروسي السافر، والسكوت الأمريكي والغربي -فضلاً عن العربي- في هذا التدخل. فالقيادة الروسية هي صاحبة القرار في الشأن العسكري السوري، ولا يخجل كبار ضباط وزارة الدفاع الروسية من الحديث عن وقف اطلاق النار وخروج المواطنين السوريين من مدينة حلب، حتى إيران التي كانت شريكة في القرار العسكري السوري، توارت مشاركتها عن الأنظار، مكتفية بمهمات ذات طابع طائفي مختلف في المناطق السورية الأخرى التي يسيطر عليها النظام في محافظة دير الزور وغيرها..
ونقلت وكالات الأنباء مؤخراً أنه «بعد أربعة أيام من المحادثات بين الخبراء الروس والأمريكيين في جنيف، جاء الاتفاق النهائي من تركيا عقب اجتماعات بين الجانبين التركي والروسي لاختيار الممرات التي ستدخل منها المساعدات الى حلب.. وجاء الاتفاق نتيجة اتصالات بين الجانبين الروسي والتركي، وبين الروس وبعض المجموعات المسلحة.. وان مفاوضات جرت مع الروس انتهت الى وقف النار..»، ومؤخراً، أعلن المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة السفير فيتالي تشوركين «أن المعارك حول حلب الشرقية انتهت»، وانتقد مداخلات مندوبي فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الذين هاجموا روسيا والحكومة السورية..» فأين النظام السوري والقرار السوري من كل ما يجري في حلب؟! بل أين الموقف العربي والغربي؟!
المشكلة ذات وجهين، الأول هو انشغال الرئاسة الأمريكية باختيار القيادات السياسية والعسكرية والأمنية الجديدة التي سيعيّنها الرئيس ترامب في إدارته، بديلة عن إدارة أوباما، لذلك فإن الإدارة القديمة لا ترغب بالتورط في أي شأن سياسي أو عسكري في الشرق الأوسط. أما الشأن الأكثر أهمية فهو الموقف الأميركي والغربي مما يدور في سوريا والمنطقة، إذ من المعلوم أن الهوية العامة للقوى المقاتلة في سوريا أنها إسلامية، سواء كانت معتدلة أو متطرفة.. حتى القوى المؤيدة للنظام، سواء كانت لبنانية أو عراقية أو إيرانية، فكلها إسلامية كذلك. والعالم الغربي معنيّ بإشغال هذه القوى بعضها ببعض، ولا يضيرها أن ينغمس مقاتلو حزب الله في حرب مع «تنظيم الدولة» وأخواته. بل ان هناك مصلحة إسرائيلية في أن تكون صواريخ حزب الله في حلب وادلب بدل أن تكون في الجنوب اللبناني، فضلاً عن أن مشاركة الحزب في الحرب الدائرة في سوريا سوف تورّث الساحة العربية احتقانات طائفية لا تمحوها سنوات، سواء سقط نظام بشار الأسد غداً أو بعد غد.
أما لماذا تغض هذه الدوائر الغربية الطرف عن مجريات الساحة السورية والنكبات التي تصيب القوى الإسلامية السنّية تحديداً، فذلك يعود إلى أن ما يسمى «الإرهاب الإسلامي» الذي ضرب الساحات الغربية، منذ أحداث أيلول 2001 في الولايات المتحدة، الى فرنسا وغيرها، أطلقته مجموعات إسلامية سنّية, ولذلك فإنه لا بأس بملاحقتها لإنزال أقسى الهزائم بها.