تابع المراقبون الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن الدولي، التي انعقدت مساء الثلاثاء لمناقشة عمليات القصف الكيماوي لمدينة دوما السورية، التي تقع في الغوطة الشرقية قرب دمشق. وكالعادة في الجلسات السابقة، فقد تقدمت روسيا بمشروع قرار يطالب بتشكيل لجنة يجري اختيار أعضائها من المحايدين، تعود بنتائج التحقيق الى المجلس ليتخذ قراره، بعد أن تكون الغوطة قد دمرت، ويكون أهلها (رجالاً ونساءً وأطفالاً) إما تحت التراب، أو في المستشفيات، أو غادروها الى مناطق أخرى لم يبسط النظام وحلفاؤه سيطرتهم عليها بعد.
لكن لماذا مدينة دوما، ولماذا يوجه الاتهام الى النظام أو الى حلفائه الذين يملكون القدرة على القصف الجوي.. وهما تحديداً روسيا وإيران؟! ذلك أنه في مثل هذه الأيام من العام المضي (4 نيسان 2017) جرى قصف مدينة خان شيخون بالسلاح الكيماوي، مما استدعى رداً أمريكياً محدوداً على مطار الشعيرات الذي انطلقت منه الطائرات المعتدية، ويومها، مع تأكد الجميع من هوية الطائرات المغيرة، إلا أن مجلس الأمن الدولي الذي استنكر العدوان، لم يتجاوز الإدانة، بعد قصف المطار الحربي الذي انطلقت منه الطائرات.
واليوم، وبعد مرور سنة على مجزرة خان شيخون، باتت الجريمة أكثر وضوحاً، ترمي الى تفتيت سوريا، والى صياغة أسوأ مما كان يسمى «سوريا المغيرة»، عن طريق تدمير ما بقي في المناطق المحررة، التي ما زالت فصائل المعارضة السورية تسيطر عليها. ويذكر اللبنانيون عمليات حصار مقاتلي منظمتي داعش والنصرة، في جرود عرسال ثم في جرود بعلبك والقاع، وكيف تم ترحيل المجموعة الأولى إلى ادلب والرقة في حافلات مكيّفة، والمجموعة الثانية الى مدينة دير الزور، وكأن المطلوب هو تهجيرهم من منطقة القلمون الواقعة قريباً من الحدود اللبنانية الشرقية. أما بالأمس، فقد ركزت بقايا جيش النظام عملياتها باتجاه مدينة دوما، ليجري تفريغها وترحيل سكانها الى مدينة ادلب قريباً من الحدود السورية مع تركيا.
لكن كيف هي المناطق التي يجري ترحيل النازحين إليها؟ في مدينة ادلب جرى اقامة حوالى مائتين وخمسين مخيماً، لا يتمتع النازحون فيها بأدنى الشروط الأمنية أو الصحية. وتقول تقارير الأمم المتحدة إن عدد سكانها بات يقارب أربعة ملايين، بين مقيم ونازح، ويبلغ عدد النازحين قرابة مليون ومائتي ألف، كثيرون منهم ما زالوا يقيمون في الشوارع والأزقة، ينتظرون ما يمكن أن تمدّهم به تركيا من مساعدات، وقد لجأوا مؤخراً الى الانتشار في البلدات المجاورة، مثل: جسر الشغور وسراقب ومعرّة النعمان، وصولاً إلى مدينة خان شيخون.
هذه الوقائع لا يمكن فصلها عن عمليات تفريغ المدن والقرى السورية من سكانها الأصليين، وجلهم من المسلمين، واستجلاب نازحين ممن يحملون هويات عربية وأعجمية أخرى، مما سوف يؤدي الى أن تكون لسوريا انتماءات مختلفة. وقد ساعد على ذلك مرسوم أصدره رئيس النظام منذ أيام، يطلب فيه من المواطنين السوريين أصحاب الأملاك والعقارات أن يتقدموا من الدوائر العقارية التي تقع أملاكهم فيها من أجل تسجيلها من جديد، وقد منح هؤلاء فترة شهر كامل للقيام بهذا الواجب، وإلا فقد تكون هناك اجراءات تعيد فرز العقارات، بدعوى أن معظم سجلات الدوائر العقارية قد أتلفت أو احترقت. فأين هم أصحاب العقارات هذه الأيام؟ وأين هي سجلاتهم العقارية أو حتى الشخصية؟ وهم بين نازح داخل سوريا أو خارجها، ومعظمهم لا يستطيع أو لا يأمن العودة الى مدينته أو قريته، هذا ان كان له فيها منزل قائم، مملوك أو مستأجر.
انطلاقاً من كل ما جرى الوقوف عنده والإشارة إليه، تتعرض سوريا لعملية استئصال لهويتها العربية الإسلامية المعروفة، وهي معرّضة لزرع هويات هجينة، سواء في المناطق التي ما زال يسيطر عليها النظام، أو التي يسعى النظام لإعطائها هويات جديدة. إذ المعروف أن روسيا باتت تسيطر على الساحل السوري، بعد أن أقامت فيه قاعدة عسكرية في مدينة طرطوس، وقاعدة جوية في ما يسمى مطار حميميم. أما اللاذقية فقد جرى اغراقها بأهل الجبل الذين يحيطون بها من كل جانب. كذلك محافظتا الرقة ودير الزور، ولا سيما المناطق التي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة (داعش) أو الأحزاب الكردية التي تتلقى دعماً أمريكياً مكشوفاً. أما المدن الكبرى (دمشق وحلب وحماة وحمص) فيسيطر عليها النظام عن طريق أدواته والميليشيات الطائفية التابعة له، سواء كانت لبنانية أو عراقية أو تركية. وأما المناطق المتاخمة للحدود اللبنانية، فقد جرى تفريغها من سكانها الأصليين، ولعل ما وقع في مدينة دوما أبرز دليل على أن النظام (أو الميليشيات التابعة له) تجري تفاهمات واتفاقات مع أيّ من الفصائل، الإرهابية أو المتطرفة كما يسميها النظام، من أجل أن ترحل عما كان يسمى «سوريا المفيدة» وأن يتيح له ذلك اقامة دولته التي كانت مطروحة عند تقسيمات سايكس-بيكو، الى جانب دويلات كردية وتركية وغيرها.
ماذا عنا نحن في لبنان؟ ان احتمالات تقسيم سوريا باتت شبه مؤكدة، وتربطنا ببعض افرازات هذا التقسيم حدود مشتركة. وإذا كان تقسيم لبنان عصيّاً رغم تعدد انتماءات أهله ومواطنيه بعد تجارب الحروب اللبنانية، أو ما كان يسمى «حروب الآخرين على أرضنا»، فقد تكون للتقسيم فرص أوسع للنجاح، خاصة إذا كانت على حدودنا دولة تدعمها تركيا وأخرى تدعمها إيران.. ودولة تدعمها روسيا وأخرى تدعمها أميركا، وربما فرنسا أو غيرها.. عندها قد يكون للواقع الديموغرافي اللبناني احتمالات أسوأ من التي سبقت، وهذا ما يحتم على اللبنانيين أن يعيروا اهتماماً لوحدة سوريا، والوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية، حرصاً على المصالح المشتركة لكلا الشعبين، وللعرب أجمعين.