بصرف النظر عن كفاءة «العهد الجديد» الذي يتولى السلطة، أو الهوية السياسية لهذا العهد، فقد بدأ العهد حراكه السياسي بجولة سياسية يسعى من خلالها لأن يوطد علاقاته مع محيطه العربي أولاً، انطلاقاً من المملكة العربية السعودية وقطر، مروراً بمصر وأخواتها، وصولاً إلى المحيط الإقليمي الذي قد تكون منه إيران وتركيا وغيرهما.. لكن ما أثبته العهد الجديد بقيادة الرئيس ميشال عون، هو أنه يمارس أداء ديمقراطياً مميّزاً، وتسليماً بأن الخطوات التي يقوم عليها الرئيس الجديد ليست مبادرات فردية ولا اجتهادات شخصية، وانما هي نتاج فريق عمل مؤلف من فريق العمل الحزبي للتيار الوطني الحر، ومن كتلة وزارية عريضة تجلّت في الوفد الوزاري الكبير الذي رافق الرئيس في جولته الخليجية، وهو مؤلف من ثمانية وزراء، يمثلون القوى السياسية التي تشكلت منها حكومة العهد، اضافة إلى عدد من مستشاري الرئيس الذين برز منهم وزير التربية والتعليم السابق الياس بو صعب، نظراً لخبر اته خلال عمله في دول الخليج.
لكن السؤال المطروح، والذي يركز عليه المراقبون بعد هذه الزيارات، هو ماذا حققت من انجازات؟ خاصة أن لبنان يعاني أزمات اقتصادية ومعيشيّة خانقة، فلا سياحة ولا اصطياف، ولا استثمارات صناعية أو زراعية. وبالتالي فما هو الانجاز الذي كان يسعى الوفد الرئاسي لتحقيقه؟
يدرك الجميع أن المملكة العربية السعودية هي الدولة الخليجية المركزية التي تقود مجموع دول الخليج، وما يسمى «مجلس التعاون الخليجي»، وهو مؤلف من دول نفطية غنية، فضلاً عن الموقع الذي تتمتع به المملكة العربية السعودية، باعتبار أنها قبلة المسلمين وأرض الحرمين الشريفين. ولا يخفى على أحد المكانة التي تتمتع بها السعودية ومليكها «خادم الحرمين الشريفين» لدى العرب والمسلمين، وكل دول العالم. وعلى هذا فقد استجاب الرئيس عون للدعوة التي وجهتها إليه القيادة السعودية، ممثلة بالأمير خالد الفيصل أمير مكة المكرمة، وبادر الى زيارة المملكة في أول جولة له بعد انتخابه.
وليس سراً أن لبنان يعلق آمالاً واسعة على الزيارة تتركز على ثلاثة مطالب: الأول هو اعادة انعاش الهبة المالية السعودية التي وعد بها الملك عبد الله قبل وفاته، عن طريق مصانع أسلحة فرنسية، وهي تبلغ ثلاثة مليارات دولار، على أن يجري تسليم الأسلحة الى الجيش اللبناني وقوى الأمن، وهذا ما توقف نتيجة أداء وزير خارجية لبنان (جبران باسيل) في حكومة الرئيس سلام السابقة، سواء في جامعة الدول العربية أو الهيئات الدولية. المطلب الثاني هو رفع مستوى تمثيل المملكة في لبنان من قائم بالأعمال الى مستوى سفير، أو رفع درجة القائم بالأعمال السعودي الحالي (وليد بخاري) الى مستوى سفير. أما المطلب الثالث، فهو رفع الحظر المفروض على سفر السعوديين والخليجيين الى لبنان، مما يعيد لبنان بلداً مفتوحاً للسياحة والاصطياف والاستثمار.
وإذا ما استطاع الوفد الرئاسي اللبناني تحقيق هذه المطالب فإنه يخفف من وطأة النزوح السوري الكثيف نتيجة الحرب الدائرة في سوريا، إذ يقدّر عدد النازحين السوريين بأكثر من مليون وخمسمائة ألف نازح، يستهلكون الماء والكهرباء، ويحتاجون الغذاء والكستاء والعلاج.. فكيف إذا حرم لبنان من مصادر دخله الأساسية ممثلة في استقبال إخوانه الخليجيين؟!
هذا على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، أما على الصعيد السياسي فإن لبنان يعاني تداعيات الحرب الدائرة في سوريا قريباً من حدوده، ويحتاج إلى التنسيق السياسي مع محيطه العربي لمعالجة الأزمة السورية. وتأتي السعودية وقطر في طليعة الأقطار التي كانت لها اسهامات مقدّرة في معالجة الملف السوري، بالتنسيق مع تركيا وإيران وغيرهما من دول المنطقة، بينما يشتكي لبنان، ويشتكي منه الجميع، أن هناك ميليشيات طائفية لبنانية تشارك في الحرب الدائرة في سوريا وغيرها من أقطار العالم العربي، كاليمن والعراق. ولعل تمثيل معظم القوى السياسية اللبنانية في الوفد يساهم في تفهم الدول العربية -لا سيما منها الخليجية- للاشكالية التي يعاني منها لبنان بالنسبة للتعددية الطائفية والسياسية التي تحتم على «العهد الجديد» مراعاة توجهات وانتماءات مختلف القوى السياسية والطائفية اللبنانية، ومبررات موقفها من الحرب الدائرة في سوريا، ومشاركتها فيها.
لكن اشكالية دستورية تبرز من خلال أداء «العهد الجديد»، سواء في ممارساته الداخلية أو في وفوده وجولاته الخارجية. فالجلسات التي عقدتها الحكومة كانت كلها في قصر بعبدا، وبرئاسة رئيس الجمهورية.. بينما يفترض برئيس مجلس الوزراء أن يترأس جلسات الحكومة، وإذا حضر رئيس الجمهورية ترأس الجلسة، وهذا ليس أصلاً بل هو استثناء. أما في الجولات الخارجية فإن رئيس الجمهورية يرافقه «مجلس وزراء مصغر» مؤلف من ثمانية وزراء يتولون الحقائب الهامة في الحكومة، كالخارجية والداخلية والمالية والتربية وغيرها، مما جعل اجتماع الحكومة الذي انعقد يوم الأربعاء الماضي برئاسة الرئيس الحريري غير ذي وزن، لأنه ناقش أموراً غير ذات أهمية. وإذا كان الرئيس الحريري لا يتوقف عند مثل هذه التجاوزات، ويعامل الرئيس عون معاملة الوالد، فإن دستور الطائف يؤكد الدور الريادي الذي يمثله رئيس مجلس الوزراء، ليكون النظام في لبنان برلمانياً وليس رئاسياً، وهذا ما سوف يواجه حكومة ما بعد الانتخابات النيابية القادمة.
نتمنى ان يستكمل «العهد الجديد» جولاته العربية والإقليمية، وأن يخرج لبنان من أزماته السياسية والاقتصادية، حتى يستطيع اللبنانيون متابعة أدائهم الديمقراطي المتميّز، في العالم العربي من حولهم.